الخميس: 04 . 08 . 2005

أَغمضتُ عَينيّ فلم تَعُد الناس من حَولي تَراني .

الناس تراكَ بعينيكَ أنتَ .

ان كُنتَ تَرنو الى جاهٍ فالجاه يصدَع لَك .

وان كُنتَ تَرنو الى مالٍ فالمالُ يسعى اليك .

وان كنتَ تَرنو الى منصبٍ فالمنصب يرخص لَك .

وان أنتَ أغمضتَ عينيكَ فأنتَ لا تَرنو، فلا جاه ولا مال ولا سلطة . ومن دون ذلك كلّه فأنتَ لستَ من المرئيّات، الناس لا تَراك .

والناس لا تتطلّع وراءها، بل تتطلّع أمامها . فهي لا تَرى ما خلّفتَ، وما بذلتَ، وما أنجزتَ، أو كيف كان صراطك . كل هذا لك وليس لهم . كل هذا بات وراءهم وهُم ينظُرون أمامهم .

انّك لا تَفْتر عن استذكار وُجوه ووُجوه . هذا من كان يوماً من أقرب الناس اليك، وذاك كان مِن أخلص الأنام اليك، وذاك كان من أعزّ خلق الباري عليك . فأين هُم اليوم، ماذا حلّ بهم، ما لهُم نأوا أو تَواروا فلم تَعُد تَلمَح منهم نظرَة، ولم تَعُد تَسمَع مِنهُم كلمة، ولم تَعُد تَأنَس مِنهُم التِفاتَة ؟

الجواب عِندَك . ليس هناك مَن يَفيء الى مَن ليس له ظلّ، وليس هناك مَن يَطرَب الى مَن ليس له صَوت، وليس هناك مَن يَمدّ يَده الى مَن ليس في يَدِه ما يُعطي، حتى البعوض يتفرّق عن قنديل انطفأ ضَوؤه .

الظِلّ في الحياة سَطوَة، والسَطوَة هي الجاه وهي السلطة، وكِلاهما ذروَة مسارٍ صاعِد في حياة المرء، لحمته وسداه المال .

انّ مَن يرى في المال سبيل كِفايَةٍ، سَبيل اجتِناب بُؤرَة عَوَزٍ أو فاقَةٍ أو ذلّ، سبيل عيشٍ رَغيد له ولعائلته، سبيل فُرصَةٍ تنفتح أمام ولدِه لتحقيقِ ذاتِهم بجدارتهم، ان مَن يرى هذا فقد رأى طريق الحياة وسط مفازة المجتمع . والمجتمع يبدو عند ذاك أقرب ما يكون الى مفازة، مساحة واسعة مسطّحة والماء فيها سراب .

أنت قطرَة في هذا اليَمّ الغامِر . أنتَ واحدٌ من هذا المجتمع، سرّاؤكَ مِن سرّائه وضَرّاؤكَ من ضرّائه . أنتَ لا تقدّم ولا تُؤَخِّر في مَدِّه وجزره . هذا حكم مَن يرى في القناعَة، في الاحتِساب، في التواضُع فَضيلَة .

ومَن يرى في المال مَطِيّة لِمجدٍ، لِجاهٍ ونُفوذ ومركز، مَن يرى الثروَة غايَة سقفها السماء، مَن اذا جَنى ما اغتنى، انما يجعل لِوجوده ظِلاً ولِصوته صدىً لا بل لِطلّته اشعاعاً . فالمجد لا يُرى إلاّ من فَوق شُرفَة يعتليها المرء ليطلّ على المجتمع . فالمجتمع ميدان المجد، على ساحته يرتَسِم ظِلّه ويرتدّ صداه وينعكِس بَريقه .

أمّا مَن يُلامِس أُفق السلطة في مصادفة تاريخية فمجده آفِل . هُوَ قَطرةٌ طارَت من اليَمّ على جناحِ هَبَّة رِيح، فاذا هي سحابَة صيفٍ في سماء المجتمع، تَعبُر من غير أن تُخلِّف وراءها أثَراً، واذا انهمرت عادَت كما نَشأَت، قطرةً في يَمّ .

هُوَ مِن هذا المجتمع واليه يَعود، يتلقّى ما يتلقّى من ظلالِ الأفذاذ وأصدائهم وبريقِهم .

طريق المجد لها خارطة، تُسمّى خارطة الطريق. هذه الطريق مُعبَّدَة بالمال والعصبية، وأنتَ الذي تُعبِّدها . فهي عَصِيّة، لا تُوصِلك ان لم تُعَبِّدها بِيدك. المال والعصبية وجهان لظاهرة واحدة هي الفساد . فاذا كان المال مبعثاً للفساد فالعصبية الفئوية درع له . فتجّار العصبية يحتمون بها من سهام المساءلة والمحاسبة.

أما في كنف ديمقراطيةٍ حقيقيّة فالمجد ساحة لها بوّابتها : هي مَسمَع المجتمع وبصره ووعيه. خارطة الطريق اليها مُعبَّدَة بالخطاب والرؤيَة والجهد والصِدقِيَّة . وكلّها في منزلة النِضال .

وبين واقِعٍ كواقعنا، تتجاذبه شواغل اللحظة وشجونها، وبين واقِعٍ تَسوده القيم الديمقراطية، مسافة على طول طريقٍ مُعبَّدَة بالحريات العامة، بِنِظامٍ سياسي صالِح، بِقِيَمٍ انسانية حضارية مُحصَّنَة بتربِيَة الشعب وثقافته وتُراثِه.

وسُلوك هذا الطريق الفاصِل يتطلّب هُداة ومُرشِدين لا بَل وقادَة زادهُم الرأي. هؤلاء قَدَرهُم أن يُعانِدوا ويُقاوِموا ويَتحدّوا متاريس ذَوِي المصلحة في استمرار الواقِع السائد، وهؤلاء من المُتسلِّحين بالمال أو بالسلطة أو كِليهما معاً . هذه مُناجزَة، لا بل حرب ضارِيَة تبقى غير مُتكافِئة الى حِين، ولكنها مع الصبر والمُثابَرَة والعَزيمَة، مهما طال الزمن، لن تكون حصيلتها إلاّ انتِصاراً مبيناً للارادة الحرّة، للديمقراطيّة.

في مراحِل من هذه الحرب كثيراً ما يَجِد دُعاة الديمقراطية أنفسهم على رصيف السياسة، ربما تحت لافِتَة العمل الوطني المُجرّد من المآرِب الآنية.

*******

السياسة قصّة حياة شعب أو أمّة. وهي قصة بلا خاتمة، فلا نهاية لحياة شعب أو أمّة.

قد يكون في حياة الأمم نهضات وسقطات . ولكن الأمم لا تموت، لذا لا نهاية لحياة أمّة، ولا نهاية فيها للسياسة.

صحيح أن في منطق تاريخ الأمم العزّة حياة والذل موت . بهذا المعنى الأمم معرّضة للذل، اذن للموت . ولكن الأمم الحيّة هي التي تستعيد عزّاً بعد ذل، فهي التي تستردّ حياة بعد موت، مهما طال الزمن ومهما بلغ العناء.

السياسي هو الذي يواكب حياة أمّته فِكراً ووجداناً ومُعايشَة، والسياسي الناجح هو الذي ترتسم آثار قدميه على الطريق، وحياة الأمم طريق لا نهاية لها.

من السياسيين من يخلّفون أثراً أو ذكراً بدور يؤدونه في مسيرة حياة أمّتهم، في صعودها، في تَحليقها، ومنهم من يخلّفون هذا الأثر أو الذكر بدور يقومون به في حركة انحدار أمّتهم أو تقهقرها، في كلتا الحالتين يدخل اسم السياسي في تاريخ أمّته بأحرف ناتِئة، وهذا في ذاته، في منطق السياسة، هو معيار النجاح والفلاح . هكذا، نجاح السياسي وبالتالي مجده ليس بالضرورة قريناً لصعود أمّته أو ازدهارها أو مجدها.

في منتصف العمر، وجدتُني فجأة، في مصادفة تاريخية، على الطريق أُواكب حياة شعبي وأمّتي. كانت حقبة شدّة ومعاناة وتحديات، ولكنها كانت أيضاً صفحة تشبّث بالحياة ومقاومة لقوى الشرّ والتقهقر وتصميم على النُهوض.

قد يكون عملي السياسي أثراً بعد عين، بمعنى أن نظرة العين كما صيحة الفم لا تُخلِّف وراءها أثراً، بخلاف خفق القدمين.

سطّرتُ نتاج رحلتي في السياسة، تجارب وآراء ومواقف، عسى أن يكون في الكتابة على جدران الطريق عوض، أو ربما بعض عوض، عن أثر لقدم على الطريق.

صحيح أن لا خاتمة لحياة الأمم، ولا نهاية للسياسة فيها، ولكن حياة السياسي، وهو من بَني الانسان، قصيرة، لها نهاية ولو أن السياسي لا يراها، فهي بالضرورة طريق مسدودة، طالت أم قصرت.

هذه كلمات، على جدران الطريق، طريق لاحت نهايتها.

قدر من يُسطّر كلمات على جدران الطريق أن يمشي على رصيفها . وقد شعرت، وأنا أُسطر آخر الكلمات، أنني واقف على رصيف السياسة، وليس لهذه الكلمات صدى على قارعة الطريق . قارِعة الطريق حكر على أُناس أنتَ لستَ منهم.