الخميس: 11 . 08 . 2005

أدان شارون العملية الارهابية في شفاعمرو بكلمات لا تحتمل التأويل. ولكن لمن يعرف أسلوبه وأسلوب أمثاله من السياسيين، وحتى بغض النظر عن الصراع القومي فإن حدته لم تنبع من حرصه على حياة مواطنين في الدولة التي يرأس حكومتها بقدر ما نبعت من رغبته باستغلال وقوع العملية ضد معارضيه. وهو إضافة الى ذلك لم يرغب فقط باستغلالها ضد معارضيه من غلاة المستوطنين الذي اعتبروه أباً لهم ذات يوم، بل أراد أيضاً أن يضع المواطنين العرب في اسرائيل معه على السفينة نفسها بحيث يصبح العرب طرفاً في اللعبة الوحيدة في المدينة: إما معه أو مع معارضيه، إما مع شارون أو مع غلاة المستوطنين الناقمين عليه لأنه تخلى عنهم. وبموجب هذا المنطق لا يوجد مكان لموقف ثالث، هو في الواقع موقف أول، هو الموقف العربي او الفلسطيني من السلام العادل، او قرارات الشرعية الدولية. إما شارون أو المستوطنون، وما على العرب الا أن يختاروا بينهما، كما فعل حزب العمل مختزلاً نفسه الى جيش احتياط لشارون.

لقد جرّ الارهابي اليهودي من أراد أن يبتعد عن السياسة من المواطنين العرب من جديد اليها، ولكن هذا لا يعني ان السياسة تتلخص بمعسكرين: اما مع شارون او مع الارهابي اليهودي والمستوطنين. وبالعكس فإن موقف الادانة الحقيقي من العملية يجب أن لا يقفز عن شارون ذاته وأن لا يرحم سياساته التي لا تزال تبني المستوطنات وتعتمد الثيولوجيا الغيبية تبريراً لها في القدس والخليل وغيرها. ومستوطنو الخليل وقريات اربع الذين يعدهم شارون بالبقاء لا يقلون هوساً وتطرفاً عن مستوطني تفواح قرب نابلس التي اختارها الارهابي مكاناً لاقامته.

شارون هو أبو المستوطنين التاريخي، فقد شجعهم ودعمهم واستخدمهم، واستخدم دعمهم وسيلة في معاركه السياسية كافة. كما أنه لا يزال يعتبر القوة العسكرية هي الأداة الوحيدة للتعامل مع العرب، ولذلك فإنه لا يؤمن بحل سلمي عادل، ولا حتى بتسوية غير عادلة مع العرب، بل بفرض الحدود من طرف واحد خلف ستار حديدي من الردع العسكري. ومن هنا فك الارتباط من طرف واحد. وشارون يؤمن بتعزيز الاستيطان حيث يرى مناسباً. وهو مثال أعلى للمستوطنين في استخدام العنف ضد المدنيين العرب من ايام الوحدة 101 وحتى الانتفاضة الاخيرة. وقد اقترحت حكومته أخيراً قانوناً أقرّته الكنيست يمنع المدني العربي، حتى المتضرر بطريق الخطأ من عنف الجيش وأجهزة الامن الاسرائيلية، من التقدم الى القضاء الاسرائيلي بطلب لتعويضه عن أضراره الجسدية او المادية. وكأن اسرائيل شارون تتعامل معه كشعب واقع تحت الاحتلال لغرض قمعه والتحكم به، وكمواطن دولة اخرى في حالة حرب مع اسرائيل لا يحق له التوجه الى المحاكم الاسرائيلية عندما يتقدم بطلب تعويض. وهكذا ابقت اسرائيل في فترة شارون على عنف الاحتلال ضد المدنيين وزادته حدة من دون واجبات الاحتلال ومسؤولياته القانونية تجاه المدنيين. وفي فترة حكم شارون تم منع منح الاقامة لعرب من الضفة الغربية وقطاع غزة بواسطة لم شمل العائلات في خطوة تمييز ضد المواطنين العرب حتى في مسائل خيار الزوجية ومكان الاقامة. وفي فترة شارون وبقيادته زالت كل الحواجز امام الحديث صراحة عن العرب في اسرائيل كخطر ديموغرافي.

أما عن موقف المستوطنين العلني من العملية فإنه يراوح بين التحفظ منها واتهام المخابرات الاسرائيلية. ولكن العديد من الخبراء في شؤون هؤلاء يدعون أنه لا توجد ادانة حقيقية بل عتب على القاتل لأنه لم ينفذ عمليته داخل احدى مدن الضفة بدلاً من داخل الخط الاخضر.

كانت العملية التي نفذها الارهابي عيدان ناتان زادة (تسوبيري) من مستوطنة تفواح قرب نابلس في مدينة شفاعمرو الجليلية عملية انتحارية لأن الجاني كان يعرف انه لن يعود منها حياً، هذا إذا لم يكن عنصرياً الى درجة الجنون بحيث يقوده جنونه الى الاعتقاد بأن العرب سيهربون عند سماعهم الطلقات بحيث يفسحون له مجال الهرب بعد قتل أكبر عدد منهم. لكننا نرجح انه مثل سلفه باروخ غولدشتاين قدّر أنه لن يعود حياً من عمليته الشمشونية ضد الفلسطينيين. دخل الطبيب المستوطن باروخ غولدشتاين الى تاريخ المستوطنين تحت مصطلح «باروخ هجيفر»، اي «باروخ الرجل» بالضبط لأنه لم يخش الموت، ولأنه قرر ان يتكلم مع العرب «باللغة التي يفهمونها». وأقاموا له ضريحاً في «قريات اربع» قرب الخليل. وبدل ان تكون نتيجة عمليته غير المسبوقة في حصد الراكعين سجوداً للصلاة في مسجد، تفريغ الخليل من المستوطنين، قامت اسرائيل بتقسيم المسجد في الحرم الابراهيمي الشريف، وايام الصلاة فيه الى كنيس ومسجد، كما تم عملياً تقسيم الخليل بعد العملية الارهابية واصبحت حياة السكان العرب فيها الى جانب المستوطنين الذين سيطروا على وسط البلد جحيماً لا يطاق. فكيف لا يحتفل غلاة المستوطنين بباروخ غولدشتاين، الطبيب، وانجازه؟

على كل حال عندما نقدّر نمو وحش عنصري في مستنقع المستوطنات لا بد ان يتمدد مثل الخلايا السرطانية نحو الداخل كما حصل مع اغتيال رئيس حكومة اسرائيل وأحد أبطال العسكرتارية الاسرائيلية في النكبة وحرب 67، ويوم الرابع من آب في شفاعمرو، فإننا نحلل تحليلاً اجتماعياً سياسياً مؤسساً على منطق وقرائن.

لكن نظرية المؤامرة تأتي من مكان آخر، إنها لا تأتي من عندنا بل من كبار المعلقين السياسيين الاسرائيليين في الصحافة العبرية المنتشرة. هؤلاء لا يقدّرون مثلاً ان الارهابي نفذ «مؤامرة عربية»، ولا يقدرون انه رجل شاباك، بل يقدّرون مثلنا انه مهووس وعنصري، لكنهم يقدّرون أيضاً ان تهاون الشاباك الاسرائيلي في وضع اليد عليه قد يكون «مهنياً» أو لـ «اسباب مهنية»، اي أنه تهاون مقصود، بمعنى توريط المستوطنين واليمين الغيبي الاسرائيلي. انهم لا يفترضون ان اليمين هو انتاج مخابراتي، لكنهم يجرأون على الافتراض ان التساهل بالامساك به هو تساهل مريب قد يدلّ الى عدم رغبة في الامساك به لـ «اسباب مهنية».

خذ مثلاً على ذلك المعلق السياسي أليكس فيشمان (يديعوت احرونوت 5 آب): «هذه فضيحة، منذ أشهر يحذروننا من عملية ارهابية... العملية في شفاعمرو عملية منفردة لكن عيدان ناتان زادة هو ظاهرة. هنالك العشرات بل المئات من أمثاله، وفي فترة التحريض، فترة فك الارتباط ينضج قتلة مثله. لن تذهب غالبيتهم لقتل العرب بما هم عرب ولكن لكل زادة هنالك فتيل خاص به، لا أحد يعلم متى يشتعل، لا وجود لروادع عند مثل هؤلاء الناس، اقنعوا انفسهم أنهم في حالة فداء من التضحية بالنفس... لقد عرف الشاباك ان الرجل يختلط مع رجال كهانا، لكن الجيش لم يتسلم تقريراً بذلك. اين كان الشاباك؟ يتجول رجل مهووس قضى الأشهر الأربعة الاولى من خدمته فاراً أو في السجن العسكري... يدرس في يشيفا، مدرسة دينية، في تفواح يتصل مع رجال كهانا ويتجول في مستوطنات غوش قطيف مع سلاح من الجيش. كيف لا تتم ملاحقته والبحث عنه بشكل جدي؟». ويختم فشمان بهذا التساؤل: «ماذا كان دور الشاباك فعلاً في هذه القصة؟ هل كانت لدى الشاباك دوافع مهنية خفية لكي لا يمسك بالرجل؟». هكذا تساءل فيشمان. ولم يختلف عنه عاموس هرئيل في هآرتس كثيراً. لكنه اضاف أن «ردود فعل اليمين المتطرف في مواقع الانترنت تراوحت بين الأسف على قتل الجندي وبين ادعاءات حول استفزاز جديد قام به الشاباك». لكن ادعاءات اليمين حول تورط الشاباك مختلفة ومناقضة في دوافعها لما نقول، أو لما يقوله المعلقون الاسرائيليون.

أربعة اسباب تدعو المواطنين العرب في الداخل للقلق إزاء العملية الارهابية التي نفذت بحقهم. ونقول بحقهم لأن الجاني لم يقصد الشهداء العينيين وانما قصد ان يقتل عرباً لكونهم عرباً، عندما أفرغ ذخيرته بركاب الحافلة حالما وصلت مدينة عربية.

أولاً، طبعاً، وصول قائمة أهداف الارهابيين اليهود الى قرى ومدن عربية في الداخل هي جزء من الشعب العربي الفلسطيني في وعيها الذاتي ايضاً. قد يعتقد قسم من سكانها مثل كل الناس العاديين انهم خارج السياسة والاحداث، وان التورط في السياسة مصيبة، وأن عليهم الاهتمام بقضاياهم المدنية والحياتية، فجاءهم الارهاب الوحشي من مستوطنة حسبوها بعيدة عنهم مستوطنة قريبة من نابلس، فثبت أنه ما يقع قرب من نابلس يقرب من الجليل، ونحن ندعي أنه يقرب أيضاً من لبنان وسورية وغيرها.

وثانياً: ان المجتمع الاسرائيلي تعامل مع الموضوع بخفة، واحتاج الامر الى ساعات طويلة لكي يبث في وسائل الإعلام ان الحديث هو عن عملية مقصودة وليس «نزاعاً في باص» (؟) كما ادعوا لساعات طويلة، ووصل الحد ببعض وسائل الإعلام للحديث عن «نزاع عربي طائفي» داخل الحافلة! حتى داخل حافلة! تشكل هذه المصطلحات ايضاً مناسبة للعرب بالتفكير حول ما يتمنى لهم خصومهم وما يمنون النفس به.

ولكن المقلق انه حتى بعد انكشاف كل تفاصيل الفاعل وتفاصيل فعلته وضعت «هآرتس» عنوانها الرئيسي في صباح اليوم التالي: جندي يقتل أربعة... لا عملية، ولا ارهاب، ولا يحزنون. و»هآرتس» ليست صحيفة يوضع عنوانها الرئيسي بعد حدث كهذا صدفة ومن دون بحث مستفيض. ولا تزال «هآرتس» تصر على تحويل التهمة الى العرب قيادة وجمهوراً، عندما تخصص افتتاحيتها (9 آب) المليئة بالدس والتزييف والتحريض لمسألة قتل الجندي القاتل وضرورة محاكمة الشباب الذين قتلوه.

وثالثاً: ان العلمية تمت اثناء تدليل المستوطنين وتفهم آلامهم عند فك الارتباط. عشرات آلاف الشرطيين والجنود انشغلوا بمنعهم من دخول القطاع عندما نفذ الارهابي عمليته. تستطيع اسرائيل اذا شاءت ان تطلق النار على متظاهرين عرب وترديهم مستخدمة سيارة جيب واحدة او سيارتي شرطة وبنادق وذخيرة حية ضد الف متظاهر او اكثر. ولكن شرطة اسرائيل في حالة المتظاهرين اليهود تضع شرطيين في خدمة كل متظاهر ليستطيعوا حمله كي لا يستخدم حتى الغاز المسيل للدموع، فدموع الجنود تسيل على المستوطنين من دون هذه الواسطة. وعلى العالم أن يعرف أنه اذا كان هذا رد فعل المستوطنين على سحب مستوطنات لا أحد يصدق امكانية استمرارها في الحياة في غزة، فما بالك بالحدبث عن تنازلات في الضفة؟ على العالم ان يعرف ان اسرائيل لا تستطيع ان تعرض نفسها لمثل هذه الهزّات الاجتماعية كل سنة او سنتين. ولذلك فإن فك الارتباط هو فعل لمرة واحدة. لقد كان تصريح شارون في باريس أحد أهم «اعلانات النوايا» حول فك الارتباط وحول احتجاج المستوطنين عليه: «في هذه الايام بات العالم يعرف ما نقصده عندما نقول تنازلات مؤلمة»!

ورابعاً: ان لدينا الف سبب للاعتقاد بل لليقين بأن الجيش الاسرائيلي مخترق تماماً من عصابات يمينية متطرفة، وعنصريين ومهاويس من الالوان كافة. الجيش الاسرائيلي ليس ملاكاً دونهم. فهو والسياسة التي ينفذها هي المشكلة الكبرى التي تسمى قمع واحتلال وثقافة عسكرية وكذب في التقارير عندما يتعلق الامر بقتل العرب. الجيش نفسه هو الارهابي الأول في المناطق المحتلة عام 67. ولكن عندما يتعلق الامر بولوج الارهاب اليهودي داخل الخط الاخضر فإن وجود عصابات يمينية متطرفة في داخله قد تغير قواعد اللعبة تماما. فإسرائيل هي من الدول القليلة في العالم، وربما الوحيدة في العالم، التي يتجول فيها الجنود خارج اطار الخدمة واداء الوظيفة في كل مكان، من حافلة الباص الى المطعم الى العيادة بأسلحتهم الشخصية كأنها ملابس عادية. وكيف يقدّر المرء هل سيفتح هذا الجندي النار أم لا؟

كاتب عربي.