الأربعاء: 17 . 08 . 2005
احتجاجات المستوطنين الاسرائيليين الذين بدأ ترحيلهم من 21 مستوطنة في قطاع غزة علت على أصوات الفلسطينيين الذين فرحوا بعودة أرضهم، ومشهد الحزن الاسرائيلي على الجلاء كان أكثر تأثيراً من الفرحة الفلسطينية الباهتة. هذه المفارقة كانت جزءاً من حملة تسويق هذا الانسحاب المغشوش، فبدا المشهد للشعوب التي لا تعرف التفاصيل وكأن اسرائيل وافقت على منح الفلسطينيين أرضاً للعيش فيها وعلى حساب آلاف المواطنين الاسرائيليين الذين تم «تشريدهم» من أرضهم واخراجهم من بيوتهم في شكل قسري، وليت الأمر انتهى عند كسب الجولة الاعلامية، فخسارة هذه الساحة ليست جديدة علينا. لكن الخسارة وصلت الساحة السياسية التي لا تقل تعاسة عن سابقتها، فتحول انسحاب الخديعة الى انجاز سياسي، ومسوغ لطرح اسئلة من نوع هل يفتح «انجاز» الانسحاب الاسرائيلي من غزة بهذه السرعة الباب أمام عودة الحياة الى المسار التفاوضي بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين؟ مع ان الانسحاب تكتيك في الاتجاه المعاكس، وخطوة محسوبة لإنهاء العلاقة التبادلية مع الفلسطينيين، وتكريس لأحادية القرار الاسرائيلي لإعادة تشكيل عملية السلام برمتها، ليس على مستوى الحقوق والواجبات، بل أيضاً على آلية هذه العملية ودور الأطراف فيها، ولخلق مزاج فلسطيني يستعذب الاذعان والقبول بالأمر الواقع.
لا شك في ان تصوير الانسحاب من جانب السلطة الفلسطينية، والادارة الاميركية، وبعض العرب، باعتباره نجاحاً للجهد السياسي، ودليلاً على جدية اسرائيل في المضي في عملية السلام المزعومة أبرز ملامح الخديعة في هذا الانسحاب، واذا كنا نتفهم عدم اعتراف واشنطن بأن الانسحاب المنقوص كان نتيجة لجهود المقاومة الفلسطينية، حتى لا تعترف بهذه المقاومة التي تضعها مع تنظيم القاعدة في سلة واحدة، فإننا لا نفهم دوافع السلطة الفلسطينية من وراء هذا التجاهل، ومحاولتها السير في هذا الاتجاه، والتقليل من دور المقاومة، والحديث عن جهد سياسي في ما تم، على رغم ان شارون نفسه أقرّ بأن الانسحاب من غزة جاء نتيجة عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال والمستوطنين. لكن السلطة الفلسطينية أرادت استبدال الذي هو ادنى بالذي هو خير، معتبرة ان الحديث عن جهد سياسي مزعوم وراء الانسحاب أمر ضروري لحفظ دورها الذي استهزأ به شارون على نحو صارخ، مع ان العكس هو الصحيح. واعتراف السلطة بأن هذا الانسحاب انجاز للمقاومة هو الطريق الأسلم لحماية دورها السياسي المعطل، وردّ على الغاء شراكتها في عملية السلام، وتلويح سياسي لحماية سيادة القرار الفلسطيني الرسمي، فضلاً عن أن الاعتراف بأن الانسحاب انجاز للمقاومة، مهما كانت سلبياته السياسية، خطوة مطلوبة لتحسين علاقة السلطة بالمقاومة بعد الانسحاب. لكن على من تقرأ كتابك يا موسى... فالسلطة الفلسطينية اشغلتها «غنائم» الانسحاب المادية عن رؤية مستقبلها السياسي على المدى البعيد والقريب، وعوضاً عن الدخول في مواجهة سياسية مع شارون، وحماية موقعها التفاوضي، دخلت في مناكفة حمقاء مع أطراف فاعلة على الساحة الفلسطينية.
استعجل شارون الانسحاب من قطاع غزة، رغم المعارضة الشديدة، لأنه خطوة ضرورية عسكرياً لإعادة الانتشار، وخلق واقع جغرافي وسياسي، وبناء سياج أمني، وتقليص عدد الاسرائيليين الموجودين بين الفلسطنيين، لاستكمال السيطرة على الضفة الغربية، التي ستبقى بحسب شارون «جزءأ لا يتجزأ من دولة اسرائيل في أي تسوية مقبلة». انه فصل من أجل مزيد من قضم الأراضي، فضلاً عن ان قطاع غزة فقير ومكتظ بالسكان، ومكروه عند اليهود لأسباب دينية. لكن يبدو ان تعاطي السلطة مع هذا الانسحاب على أنه انجاز سياسي، مع انه صفعة سياسية، سينقل عدوى كراهية غزة من اليهود الى الفلسطينيين، بعد أن يكتشف الفلسطينيون أن غزة أصبحت وطناً بديلاً من الضفة والقدس وبقية الأراضي والمدن المحتلة.
الأكيد أن تعاطي السلطة الفلسطينية مع الانسحاب باعتباره نصراً سياسياً، هو مسمار في نعش شرعيتها السياسية في نظر الشارع الفلسطيني، وهو بمثابة اعتراف بحق اسرائيل في منح ما تشاء من الأرض وقت ما تشاء، فضلاً عن انه تعبير عن خور سياسي، وضبابية في الرؤية، وإذا لم تتدارك السلطة موقفها من تصنيف هذا الانسحاب، وتعيد التعامل مع أسبابه وطريقة فرضه، فستقرأ نتيجة تصرفها في موقف الشارع الفلسطيني خلال الانتخابات التشريعية على نحو لا تخفيه التبريرات والخطب. هذا على افتراض ان الانتخابات التشريعية ستجرى في أجواء نزيهة.
التعليقات