عرفت الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها فصلا بين الدين - الكنيسة والدولة، وقد أقر الدستور الأمريكي عام 1789 هذا المبدأ بحيث تقف الدولة على الحياد في العلاقات ما بين الإنسان والدين "أن يصدر الكونجرس أي قانون بصدد ترسيخ الدين أو منع ممارسته" وهذا يعني أنه يحظر على الكونجرس سن قوانين تؤسس دينا أو تمنع حرية التعبير الحر الديني أو تجبر أحدا على اتباع دين معين بأي وسيلة أو أن تساعد الدولة على ذلك ماديا أو معنويا.
رغم الاعتراف بمبدأ فصل الكنيسة-الدين عن الدولة، فإن هذا الفصل لم يؤد إلى فصل الدين عن السياسة، كما أن تأثير الدين في الحياة الأمريكية بدأ بالمجتمع المدني وانتهى إلى العمل السياسي من خلال الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة.
لعبت الكنيسة طوال التاريخ الأمريكي دوراً ما في السياسة الأمريكية وأعطت لطريقة الحياة في الولايات المتحدة ولنظامها صفات مقدسة، ومنذ الستينات من القرن العشرين زرعت الكنيسة الأمريكية أفكاراً كثيرة منها فكرة " الشعب المختار" وإضفاء الطابع القدسي على نصوص أمريكا التأسيسية مثل الدستور وإعلان الاستقلال في العقل الشعبي وفي فلسفة المجتمع الأمريكي.
في أواخر القرن التاسع عشر استعاد الكثير من الدينيين في أمريكا نوعا من الاحترام لحكمة الأقدمين، واهتموا بالحفاظ على ثبات الحقائق الدينية في وجه التغييرات وانشغل العديد منهم خاصة المحافظين بالدفاع عن سلطة الكتاب المقدس وصحته، واستدعى تعلق الأمريكيين بالكتاب المقدس وتراث بلادهم الديني إعطاء أولادهم ومدنهم أسماء كتابية من العهد القديم وحركت مشاعرهم قصص الخروج من مصر والوصول إلى أرض الميعاد فلسطين التي يسمونها إسرائيل.


تشير دراسة أجريت عامة 1998 أن هناك 40% من الأمريكيين يقولون إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعيا، ويعتبر 82% من الأمريكيين أنفسهم متدينين بشكل أو بآخر، وهناك 90% منهم يؤكدون على أنهم يؤمنون بالله، وهناك 95% يعتقدون في وجود الله، وفي استطلاع للرأي عام 2002 قال ثلاثة من خمسة أمريكيين إن الدين "مهم جدا" في حياتهم، وأربعة من خمسة يعتقدون بالحياة الآخرة ، وفي استطلاع آخر أجري في العام نفسه فقد أجاب 58% أن أمريكا تستند في قوتها على الإيمان الديني، وذكر 48% أن الولايات المتحدة تتمتع بحماية إلهية خاصة.
تعتبر الطوائف البروتستانتية التي تشكل غالبية الحركة المسيحية في أمريكا من أهم الكنائس الأمريكية تأثيرا على السياسة العامة الأمريكية ومنها تتفرع كنائس ومذاهب متعددة منها المتشدد ومنها الليبرالي ومنها المتصهين، وقد حرصت العديد منها منذ منتصف القرن العشرين على بذل مزيد من النشاط للانخراط في العمل السياسي.

البروتستانت "الخط الرئيسي":
تشمل البروتستانتية " الخط الرئيسي " سبع مذاهب هي ( المشيخيون - الجمهوريون - الاسقفيون - الميثودسية - اللوثريون، المعمدانيون ) ولهذه المذاهب قاعدة اجتماعية عريضة راسخة في الطبقات الوسطى والعليا ذات نفوذ اقتصادي وسياسي وثقافي، ويتوزع أبناؤها على الولايات المتحدة الأمريكية المختلفة، وتعتنق أغلبها أفكاراً دينية ليبرالية منفتحة علي قيم الحداثة، وهي ذات حس اجتماعي قوي، ويتميز موقفها من القضايا العامة بفصل الدين-الكنيسة عن الدولة ويبلغ عددهم ما يقارب 40 مليون أمريكي ويمكن تصنيف التنوع داخلها كالآتي:
* ليبراليون ( المشيخية - الأسقفيون - كنيسة المسيح المتحدة " الجمهوريون).
* معتدلون ( اللوثرية - الميثوديسية - المعمدانيون الأمريكان الشماليون - تلامذة المسيح).
* المحافظون على التراث اللاهوتي " الليتورجية "( الأسقفة - اللوثريون ).
* المتحررون من البنى اللاهوتية التقليدية (الكنيسة الخمسية وآخرون ).
شهدت المواقف البروتستانتية الأمريكية تغييرا تدريجيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العلاقة مع إسرائيل باتجاه عكسي وباتوا ينتقدون السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، رغم كونهم سباقين في الحوار مع اليهود وتبنيهم للتراث اليهودي في بداية التاريخ الأمريكي وعملوا على مراجعة نصوصهم التعليمية وحذفت منها كل إشارة تدل على عقاب الله لليهود وأي إشارة تحمل معنى الكراهية والعداء لهم.
تيار الإنجيليين المحافظين:


لا تعترف هذه الفئة من البروتستانتية بالفواصل المذهبية وليس لها حدود مؤسسة واضحة، تعتبر بمثابة تيار اعتراضي فحسب على البروتستانتية التاريخية الليبرالية، وتسعى إلى اختراقها، وهي تيار إحيائي يستلهم الماضي ويستعير لغته ويطلق عليهم " المولودون من جديد "؛ والأصوليون؛ والمحافظون، وهم فئة ناشطة وغاضبة، وتؤمن بأن المؤمن يخوض نوعا من الحرب الدينية وعليه القيام بمواجهة معسكر الشر أو الظلمة، وهم يتصدرون بحماسة كبيرة للتفاسير الحديثة للكتاب المقدس ويدافعون عن حرفية الكتاب المقدس وبلغوا ما يقرب من 40 مليون أمريكي، ويبدو للوهلة الأولى أن تيار الإنجيليين المحافظين متماسك، إلا أنه يتميز بتنوعه الشديد حتى في الأصول ويتوزعون كالآتي:
* إنجيليون لا يقبلون كل القراءات الحرفية للكتاب المقدس ( الحقباتيون أو الألفيون ) الذين يبدون تعلقا قويا بإسرائيل باعتبارها تمثل الحقبة الأخيرة من مجيء المسيح ثانية كما ورد في سفر الرؤية.
* الخمسينون وهم جماعة حديثة انتشرت في الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين ويركزون على مواهب الروح القدس ويتمتعون بجاذبية لافتة في الأوساط الشعبية وهم على الطرف النقيض من الإنجيليين المسيسين.
* المتمر المعمداني الجنوبي وهو أكبر المذاهب الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية وكان لهم دور بارز في ترشيح ريجان بانتخابات 1980.
* وهناك كنائس محلية التفت حول وعاظ مشاهير استخدموا الإعلام لخدمة رسالتهم فيما سمي بالكنائس المرئية ومنهم جيري فولويل وبات روبرتسون.


أما المسيحية الكاثوليكية في أمريكا فمنذ أواخر القرن التاسع عشر ظهرت بين الكاثوليك في الولايات المتحدة تيارات ثلاثة تمايزت بحسب الموقف من المجتمع الأمريكي، انشغل أهل التيار الأول بأهمية المحافظة على استقامة الإيمان الكاثوليكي وعلى الهوية الخاصة ورأوا أن وحدة الكاثوليك تتحقق عن طريق الحرص على التماسك المعهود في التنظيم الكنسي ودعوا إلى المساهمة في النظامين السياسي والاقتصادي دون الانخراط في المجتمع والثقافة الأمريكيين ووجدوا في البروتستانتية العلمانية ما يهدد الإيمان الكاثوليكي التقليدي، أما التيار الثاني فضم الذين مالوا إلى الحذر حيال الاندماج في المجتمع الأمريكي، وهناك تيار غالباً ما ينعت بالليبرالية وهو ينظر إلى المجتمع الأمريكي بعين الرضا ويثمن الديمقراطية وسياسة الفصل بين الكنيسة والدولة ويقبل على المساهمة في الحياة العامة الأمريكية على كافة الأصعدة، ويشكل الكاثوليك في المجتمع الأمريكي ما يقارب 41% أي ما يقارب 63 مليون كاثوليكي أمريكي، وقد زاد نفوذ التيار الثالث بعد انتخاب كيندي 1960 رئيسا للجمهورية وهو كاثوليكي المذهب ومالت الأكثرية الكاثوليكية للحزب الديمقراطي وسياسته الاجتماعية ما عزز الانفتاح على بروتستانتية الخط الرئيسي الليبرالية، خاصة بتقاربهم في قضايا التحديث والتطور العلمي والتكنولوجي في الولايات المتحدة والإنجازات العالمية التي حققت في عهده كما في قضايا السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنه بحرب فيتنام وفضيحة ووترجيت اهتزت صدقية المؤسسات الدينية وعلت أصوات الإنجيليين الرافضين للتقارب الكاثوليكي - البروتستانتي، وجاء انتخاب جيمي كارترالمبشر المعمداني في السبعينات غلبة التيار المحافظ في المجتمع الأمريكي، وكان التقارب الوحيد الذي ظهر في العقدين الأخيرين بين الكاثوليكي - الإنجيلي في القضايا الاجتماعية الدينية استنادا على قضايا الإجهاض والعائلة والشواذ.

كاتبة فلسطينية