الإثنين:02. 01. 2006

خالد الحروب


إلى اليمين دُرْ! هكذا هو عالم اليوم إذ يدلف إلى عام جديد، ويحث الخطى نحو حقبة بائسة من التاريخ العالمي، حقبة اليمين المتطرف، وتوالد الأصوليات والصعود المتسارع للفاشية بمختلف تنويعاتهاmiddot; إذا كان لنا أن نسم العام المنصرم بسمة جامعة فربما كانت سمة تفشي التطرف، يميناً ويسارًا، شمالاً وجنوباًmiddot;
في الغرب كما في الشرق، تميد الأرض تحت أقدام دعاة التعايش والحوار والليبراليين واليساريين وذوي النزعات الإنسانية، لصالح دعاة الحدود الدموية، والتقوقع القومي والإثني والديني، وأنصار الأفكار الإقصائية والخلاصية والاستئصاليةmiddot; بين تطرف الولايات المتحدة، وتطرف الأصوليات القاعدية، والحرب الطاحنة الدائرة بينهما، يقع الاعتدال ضحية أولى، ويصعد التطرف المنتصر الأول، والوحيدmiddot; في الأعوام القليلة الماضية نقوم بدفن الاعتدال مرة تلو مرة مع آخر يوم في السنةmiddot; في الغرب كما في الشرق هناك نوستالجيا ثقافوية للتسامح والانفتاح والاعتدالmiddot;middot;middot; الكل يترحم عليها جميعاًmiddot; والكل ينظر إلى المنحدرات التي نتوجه إليها كأنها قدر محتوم لا نستطيع الحيدة عنهmiddot;
الفعل المتطرف ورد الفعل عليه هو الدوامة التي تأسر الجميع وتقودهم إلى تلك المنحدراتmiddot; آلية الفعل التطرفي، ثم رد الفعل المزاود في تطرفه على تطرف الفعل الأصلي، تدفع بالعالم إلى طريق ظلامي ومشؤوم، هو طريق الفاشية التبادليةmiddot; تظن الأطراف المختلفة أن التطرف في الرد ''يلقن'' الطرف الآخر الدرس الصحيح، وهو قمين بإيقاف تطرفهmiddot; والنتيجة التي يعرفها تلامذة الصف الأول في السياسة والتاريخ هي أن التطرف يجر التطرف، وأن العنف يولد العنفmiddot; تطرف الطرف الأقوى، الولايات المتحدة هنا، يُدان أكثر لأنه أكثر بشاعة بكونه يصدر عن الطرف الذي يتوفر على خيارات سياسية عدةmiddot; وهو تطرف مُصوغ كاستراتيجية ذكية وفعالة، فيما يحبل بالفشل والغباء في آن معاًmiddot; لا يقلل ذلك من إدانة تطرف الطرف الأضعف وممثليه، إذ أن بشاعة رده وتطرفه ودمويته تقلب أوراق الضحية والجلاد وتبعثر عدالة القضية، ويصبح الجميع جلادينmiddot;
في السنوات القليلة الماضية تشهد أوروبا انحرافاً متزايداً نحو ''اليمين''middot; أمثلة ألمانيا وبولندا اللتين فاز فيهما ''اليمين'' في انتخابات الاستشارية والرئاسة على التوالي ليست سوى حلقة من حلقات التدهورmiddot; في فرنسا يتعاظم نفوذ ''جان ماري لوبن'' وجبهته، على إيقاع الإرهاب ''القاعدي'' في لندن، كما تعاظم على إيقاع نفس الإرهاب بعد تفجيرات مدريد سابقاًmiddot; وانتفاضات الشوارع التي شهدتها باريس وبعض المدن الفرنسية هي بمعنى ما تمرد ضد تفاقم اليمين وعنصريته، كما ستزيد منهmiddot; في هولندا، معقل التعددية الثقافية وأحد أهم النماذج على تعايش الثقافات والتسامح المتبادل، ينقلب رئيس وزرائها ذو الخلفية اليسارية الليبرالية على مواقفه السابقة، ويعلن آراء أقرب إلى ''اليمين'' إزاء المهاجرين والتسامح والتعامل مع الجاليات العربية والمسلمةmiddot; في بريطانيا، يزاود حزب العمال الحاكم (الأقرب إلى اليسار نظرياً) على كل أطروحات حزب المحافظين اليميني في أجندة فضفاضة مقلقة إزاء المهاجرين والجاليات وإقرار القوانين غير الليبراليةmiddot; في الدنمارك معركة إعلامية سخيفة فيها تشدد غير مفهوم حول المس بمقدسات إسلاميةmiddot;
في الولايات المتحدة هناك الكارثة الكبرىmiddot; فهنا لا أحد يستطيع التنبؤ بمآلات التسارع الفاشي لسياسات المحافظين الجدد وصُناعها، وتحالفها غير المقدس مع التعصب المسيحي الصهيوني المخبول بتسريع نهاية العالم واستحضار المسيح المخلصmiddot; في السياسة الداخلية كما في الخارجية تشتكي الأصوات الأميركية المستنيرة من أن ''بلد الحريات'' تحول إلى ديكتاتورية أمنية داخلياً، وإمبريالية فجة خارجياًmiddot; وتحت شعار ''الحرب على الإرهاب'' تتمدد أجندات البحث عن مصالح الشركات النفطية الكبرى، ويتسع نطاق التحالفات المشبوهة بين سياسيين واقتصاديين وتجار وحلفاء خارجيين لاستثمار ما تبقى من فترة حكم بوش من دون الشعور بضغط خسارة أي انتخابات قادمة، بكون تلك الفترة هي الثانية والأخيرةmiddot; هذا كله وغيره كثير في الغربmiddot;
في الشرق لا تقل الصورة قتامة! يتآكل التسامح الخجول رويدا رويدا ويصبح الدم هو سيد الموقفmiddot; العنف يستشري في جنبات المجتمعات، لأسباب مفهومة، ويدمر حاضرها ومستقبلهاmiddot; حتى ما توارثناه من تسامح عريق إزاء بعضنا بعضاً أصبح ضحية للانجراف المثير نحو اليمينmiddot; فتاوى الإقصاء والتكفير والشطب الكلي أكبر بكثير من أن يحصيها أحد، تختلف موضوعاتها لكنها تتفق على فكرة واحدة: وأد التسامحmiddot; عشية أعياد الميلاد الأخيرة طارت فتوى سخيفة تكفر كل من يهنئ المسيحيين بأعيادهم، وتعتبر مجرد التهنئة والسلام على أي مسيحي وتهنئته بعيد الميلاد لا تقل عن ''عبادة الصليب وبالتالي الخروج من الملة''middot; هذا يصدر بحق المسيحيين العرب، المواطنين الذين لا تقل درجة مواطنتهم قيد أنملة عن درجة مواطنة المسلمين، فما بالك بالمسيحيين غير العرب!
خطابنا إزاء اليهود واليهودية أبشع وأبشعmiddot; التفريق بين الصهيونية كنظرية عنصرية احتلالية واستيطانية معادية يجب النضال ضدها وضد مشروعها الاغتصابي لفلسطين، واليهودية كدين سماوي واليهود كأتباع ديانة آيل إلى الاختفاء شيئا فشيئاmiddot; علو صوت الخطاب ''القاعدي'' قضى على ذلك التفريق، والأجيال الجديدة تظن أن يهود بولندا هم يهود بني قريظة، وتربط بين أي يهودي في العالم حتى لو كان من أشد المؤيدين والمتحمسين للقضية الفلسطينية والقضايا العربية بعامة وبين يهود بني قينقاعmiddot; وفي مناخ كهذا يتورط الجميع في معركة لا ناقة ولا جمل لنا فيها مثل إنكار ''الهولوكوست'' وخوض حروب لفظية دونكيشوتية في ذلك السبيلmiddot;
أما ''أم الأصوليات'' و''أم الفاشيات'' في المنطقة، إسرائيل، فهي الأكثر إمعانا في التطرف والأصولية والعنصرية عاماً بعد عامmiddot; فبين التسيد الذي لا يتباطأ لصعود التيارات الدينية، وانحسار الأصوات الليبرالية والمعتدلة نسبياً، يعلو أكثر الخطابات انغلاقا وعنصرية، وتسيطر على الفضاء أسوأ السياسات التوحشية التي من الممكن تخيلهاmiddot; وهذه السياسات وتلك الخطابات لا تنتج بالطبع والتوقع سوى رد فعل يناسبهاmiddot; لكن الحنق الفلسطيني والعربي يتعاظم عندما يتم التغاضي عن فاشية ''أم الأصوليات'' والربت على كتفها، مقابل الإمعان في تضخيم أخطاء الفلسطيني والعربيmiddot; الصورة القديمة الرتيبة المملة للدعم الغربي السمج لإسرائيلmiddot;
يتمنى المرء لو يكتب بروح متفائلة مستقبلا العام الجديد، لكن من الصعب القيام بذلكmiddot; أقصى ما نستطيع تمنيه هو أن يكون عام 2006 أقل سوءا وانحداراً من عام ،2005 وكل انحدار وأنتم بخير!