غسان الإمام
قلب عبد الحليم خدام المشهد السياسي السوري، اللبناني المتأزم، على رأس النظام في سورية، من دون ان يصل الى اتهامه مباشرة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، تاركا ببراعة وتحفظ للتحقيق الدولي ان يأخذ مجراه.
لكن نائب الرئيس المستقيل او المعتكف في باريس، أوحى وبشكل دامغ ان المخابرات السورية، اذا كانت هي التي قامت بقتل الحريري، فلن تجرؤ على الاقدام على مثل هذه laquo;العملية الكبيرة جداraquo;، من دون ان تتلقى قرارا من فوق، ثم اكد واقعة التهديدات التي تلقاها الحريري من الرئيس السوري، الامر الذي يضع بشار في دائرة الاتهام في القضية.
وقدم خدام صورة الرئيس على انه لا يقبل النصيحة، ويتفرد بالقرار، من دون تبصر بنتائجه، فيما بشار يحرص على وضع نفسه امام السوريين والعرب، في اطار مسؤول لا علاقة له بماضي نظام ابيه، وكشاب مسالم يسمع النصيحة، والمشورة. ولا شك ان الصورة الجديدة ستسبب صدمة وألما شخصيا بالغا لبشار الذي سبق ان قال انه ليس من طبعه laquo;التهديدraquo; ووصف كل من شارك وخطط في اغتيال الحريري بأنه laquo;خائنraquo;.. وlaquo;تجب مسؤوليتهraquo;.
كلام خدام واتهاماته الصريحة غير المباشرة، يمكن ادراجهما في اطار laquo;انتقامraquo; ذكي من رئيس سبق له ان ساهم في ترشيحه، وتولى رسميا عملية ترئيسه بعد وفاة والده قبل خمس سنوات. وكان خدام ينتظر من هذا الرئيس ان يرد له الاعتبار كنائب للرئيس وكمستشار يشير ويُستشار، لا سيما في السياسة الخارجية واللبنانية بالذات. يقول خدام انه نصح بشار مرارا بابعاد ضباط المخابرات laquo;المسيئينraquo; في لبنان، وعلى رأسهم رستم غزالة. لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
والان، ما هو صدى حديث خدام المدوي عربيا ودوليا، وفي داخل لبنان وسورية شعبيا ورسميا؟
ما قاله هذا السياسي المخضرم والمحنك (75 سنة) يأتي بمثابة هدية طال انتظارها من laquo;بابا نويلraquo; الى المعارضتين السورية واللبنانية في رأس السنة الميلادية. فقد منحهما الذخيرة السياسية لقصف النظام بالكلام والاتهام. وجاءت كدليل آخر، بعد laquo;انتحارraquo; غازي كنعان على الانشقاقات في القمة الناجمة عن سوء السلوك والتدبير في ادارة لبنان، بدءا من التجديد للرئيس لحود، وصولا الى اغتيال الحريري، وما تبعه من اغتيالات مروعة.
انشقاق خدام المتردد طويلا جاء laquo;ضربة معلمraquo; في الوقت المناسب، ليعطي دفعا وتشجيعا للزعماء اللبنانيين، وفي مقدمتهم وليد جنبلاط، الذين يريدون ابقاء قضية الحريري حية على الحلبة الدولية، كجريمة يجب ان يعاقب عليها القانون الدولي، بعدما تشكل شعور متشائم لديهم بأن laquo;صفقةraquo; دولية ما تعقد لتجنيب النظام السوري laquo;ويلاتraquo; الاتهام. اما المتضررون من كلام خدام ففي مقدمتهم الرئيس لحود، وlaquo;حزب اللهraquo; الحليف القوي لسورية بشار وايران.
انشقاق خدام واتهاماته سوف تنداح دوائر دوائر على السطح الشعبي السوري الهادئ والقلق. وسوف تعيد النظام الى نقطة البداية، بعدما نجح في صرف اذهان السوريين عن laquo;شبهةraquo; التورط في اغتيال الحريري، ومن خلال حملة اعلامية صاخبة laquo;تترحمraquo; على الحريري، وتندد بجنبلاط وحكومة السنيورة، ووصلت حملة laquo;التبرئةraquo; الى تقديم تواقيع ثلاثة ملايين سوري الى الامم المتحدة، قال النظام انه جمعها احتجاجا على تقرير ميلس والحملة الاميركية على سورية.
غير ان خدام اثار علامة استفهام كبيرة لدى السوريين: كيف كان النظام السوري موجودا امنيا وسياسيا في الساحة اللبنانية، من دون ان يعرف، ان لم يكن مشاركا، في عملية اغتيال ضخمة ومعقدة، كعملية اغتيال الحريري؟! من السابق لأوانه معرفة صدى انشقاق خدام داخل مؤسسة النظام وقاعدته العسكرية والطائفية. منذ مقتل الحريري في فبراير (شباط) الماضي، استطاع النظام اظهار نوع من التماسك امام الحملة الدولية لسحب البساط من تحت قدميه. وحتى عشية كلام خدام، لم يكن يبدو ان هناك انشقاقا واسعا او خلافا للنظام مع قاعدته العسكرية الصلبة التي يتحكم بها ضباط طائفته العلوية.
يبقى السؤال: هل كلام خدام يساعد على تمهيد الطريق امام محاولات من الخارج او الداخل لاجراء عملية تجميل laquo;تصحيحيةraquo; في قمة النظام، بحيث يزيح ضباط الطائفة الاسرة الحاكمة، بعدما ظهر واضحا ان هناك اخطاء مريعة قد ارتكبت؟
حركة تصحيحية شبيهة بتلك التي قادها laquo;وزير الدفاعraquo; حافظ الاسد في عام 1970، وانتهت بترحيل نظام صلاح جديد، من دون ان تهتز قبضة الطائفة العلوية على الحكم والسلطة؟
laquo;حكماءraquo; الطائفة وضباطها يعرفون ان اي laquo;تصحيحraquo; قد يؤدي الى فتح الباب واسعا امام مفاجآت تطيح بهيمنتها على الحكم والسلطة. من هنا، يأتي تحذير النظام للجيش والطائفة، بل للاسرتين العربية والدولية، من ان اي تغيير في سورية، سوف يؤدي الى امتداد اللهب العراقي ليلف المنطقة كلها، وليس سورية وحدها.
يعتقد النظام ان هناك قناعة قد تشكلت لدى الاسرة العربية المعنية بالشأن السوري تتلخص في ان لا بد من المحافظة على استقرار سورية، ولو بإبقاء نظام لم يعد حليفا مرغوبا به لدى حلفائه العرب.
ارجع لأقول ان خدام بدأ حياته العملية محاميا لم يلق نجاحا، فاضطر الى الالتحاق بوظيفة حكومية كخبير قانوني في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. غير ان حزبيته المبكرة ساعدته، بعد الانفصال بين سورية ومصر، على لعب دور بارز في الصراع بين عسكر الطائفة العلوية ومدنييها في laquo;بعثraquo; الستينات. وكان بحكم كونه سنيا من ابناء الساحل، وخالا للعقيد علي ظاظا احد حلفاء الاسد، من الاطر (الكوادر) الحزبية المدنية النادرة جدا التي سايرت حافظ الاسد ضد جديد.
كما هو معروف، انتهى الصراع بانفراد الاسد بالحكم والرئاسة، وكوفئ وزير الاقتصاد خدام بترقيته الى منصب وزير الخارجية، وإسناد منصب وزير الداخلية الى قريبه علي ظاظا. لكن ظاظا سرعان ما استقال مفضلا العمل التجاري الحر، فيما بقي خدام وزيرا للخارجية نحو 25 سنة.
رغبة الرئيس الراحل الاسد في التفرد بالسياسة الخارجية، ممارسة وتنظيرا، ادت الى اقصاء صديقه خدام الذي بدا دائما على يساره، بضربة الى الاعلى (Kick up) كنائب لرئيس الجمهورية، وتولى موظف حزبي صغير، يدعى فاروق الشرع، مهمة تنفيذ السياسة الخارجية بحذافيرها، كما يرسمها الرئيس.
تقبل خدام على مضض الصمت اقصاءه من المنصب الحساس، بل حافظ على ولائه لصديقه الرئيس، على الرغم من انه لم يعد ذاك المستشار المقرب داخل دائرة القرار الضيقة، وعلى الرغم من تكليفه ببعض المهام الديبلوماسية، فقد سحب منه عمليا الملف اللبناني، وسُلم الى المؤسسة العسكرية المخابراتية.
استطاع الحريري مد جسور الود والصداقة الى خدام، املا في ان يسترد خدام يوما دوره ونفوذه، لا سيما بعد ترئيس الابن بشار خلفا لأبيه. هذا الامل خاب لدى الرجلين، وعاد خدام الى laquo;عزلتهraquo; داخل سرب الحكم، فيما حل محله laquo;غريمهraquo; القديم فاروق الشرع الذي تحول، بقدرة قادر، من منفذ ينقصه الخيال، الى فيلسوف laquo;منظرraquo; للنظام، على الاقل، في السياسة الدولية واللبنانية.
يُروى عن أبي جمال قوله انه سوف يخرج من سورية، اذا رحل وغاب حافظ الاسد. ظل خدام وفيا للحريري. تحدى النظام وزار مروان حماده مهنئا بنجاته من الاغتيال. شارك بجرأة، وسط دهشة اللبنانيين الذين لا يعرفون laquo;خباياraquo; اللعبة، في التشييع الشعبي لصديقه الكبير الحريري. لعل خدام تأخر طويلا في غسل يديه من النظام. غادر متأخرا. غدا جارا لي، عن بعد هنا في باريس، يلبس خدام لباس laquo;بابا نويلraquo;. يفجر قنبلة مدوية في سماء منطقة ملتهبة، فيما باريس تطفئ الأنوار ليلة رأس السنة.
التعليقات