الأربعاء:04. 01. 2006
د. برهان غليون
لم تولد الفكرة الوطنية، بما تتضمنه من معاني الحرية والمساواة القانونية والمشاركة في السلطة على قدم المساواة بين جميع الأفراد، ولا الأمم التي نشأت عنها، من الفراغ، ولكنها بنيت بالجهد وبالاستثمار التاريخي لنخب استبطنت قيمها ومبادئها، وعملت على تغيير شروط حياة الأفراد النفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية بما يعمم هذه القيم ويحقق المبادئ، وساعدت على تغيير أنماط سلوكهم تجاه الدولة والقانون الذي يمثلها وتجاه بعضهم بعضاًmiddot; وفي هذا السياق نشأت أشكال تضامن جديدة وطنية تتجاوز التضامنات العصبية الموروثة، الطائفية والقبلية، وتستلهم قيما إنسانية عموميةmiddot; لذلك لا توجد الوطنية، أي الرابطة السياسية النوعية، بمعزل عن سياسة ذات أهداف وطنية، تقوم بها النخب الحاكمة وتكفلها الدولة بوصفها التجسيد المباشر للسيادة الشعبيةmiddot;
فالوطنية هي، بهذا المعنى أيضا، مشروع تاريخي لا يتحقق إلا عبر التطبيق الدائم لأجندة وطنية، بما تشمله من برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية لا غنى عنها لتكوين أية أمةmiddot; ومن دون هذه البرامج الوطنية تنتكس العلاقة داخل المجتمعات الحديثة بسرعة إلى طابعها العصبوي القديم، حتى في الدول التي حققت مكاسب كبيرة على هذا الطريقmiddot; ولو طبقت النخب الحاكمة أجندة طائفية أو عشائرية أو دينية فستكون النتيجة دولة طائفية أو عشائرية أو دينيةmiddot; ولو كفت الدول الكبرى الراهنة عن تطبيق أجندتها الوطنية أو عجزت عن تحقيقها، لانهارت لحمتها الوطنية هي أيضاً ولم يبق ما يجمع بين أفراد شعوبها، بالرغم من كل الإنجازات التاريخية، ومن رسوخ القيم الوطنية في الثقافة المحليةmiddot; فلو تخلت الدول الأوروبية عن برنامج الديمقراطية، وصرفت النظر عن تنظيم السوق الاقتصادية الوطنية، وافتقرت إلى منظومات الدفاع الناجعة عن سيادة شعوبها واستقلالها، واستبدلت سياساتها الدفاعية بسياسات أمنية داخلية قائمة على تسليط أجهزة الأمن على مواطنيها، للانتقاص من سيادتهم وتقليص حرياتهم والاعتداء على حقوقهم أو تجريدهم منها، وأحلت لغة العنف والعقاب الوقائي والجماعي محل التطبيق الفردي والسليم للقانون، وقبلت بعدالة تقريبية خاضعة لمزاج أصحاب السلطة والمال والعلاقات العشائرية والمحسوبية، كما هو الحال في أغلب الدول العربية، لما بقيت فرنسا فرنسا ولا بريطانيا بريطانيا ولا ألمانيا ألمانياmiddot; فهذه الأجندة هي المضمون الحقيقي لعقد الوطنية الذي أعاد بناء العلاقات الاجتماعية على أسس مختلفة عن الأسس القرابية والدينيةmiddot; ولا تجتهد النخب الاجتماعية في تحسين أدائها، والبحث عن الحلول الأنجع للمشاكل الاجتماعية، إلا لإثبات مقدرتها على المحافظة على عقد الوطنية هذا، ومن وراء ذلك على جدارتها في الحكم، وهو مصدر الشرعية، وما يرتبط بتحقيقها من استقرار الدولة وانسجام المجتمع وضمان الوحدة الوطنيةmiddot;
ومن الواضح أنه من دون هذه الأجندة الوطنية، التي تكمن وراء بناء الأمة أو الرابطة السياسية، وتضمن وحدتها واستمرارها، تبقى الدولة في العصر الحديث آلة صماء، مفتقرة للفكرة الموجهة وخالية من أي أجندة تاريخية، وقابلة للانقلاب على المجتمع والتجيير لصالح تنفيذ أي أجندة خاصة بالفئات التي تحتل أجهزتها الإدارية والعسكرية والسياسيةmiddot; وهو ما حصل بالفعل، ليس في العالم العربي فحسب، ولكن في العديد من بلدان العالم التي لم تنجح في تطبيق برنامج التحول الوطني أو أخفقت فيهmiddot; ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تنحسر الرابطة الوطنية، مع أشكال التضامن والوحدة المواكبة لها، وتذبل أيضا العاطفة النابعة منها، لصالح العودة المظفرة للعصبيات الطبيعية التي نشأت قبل نشوء الأمم وبمعزل عنها، أعني التضامنات الدينية والطائفية والعشائرية والثقافية التي أمكن الحفاظ عليها، أو بقيت ذات فاعلية كبيرة، في ظل دول وطنية مفتقرة لشروط بناء أمة، وتكوين الفرد المواطن، بما يتضمنه معنى المواطنة من العلاقة القانونية والسيادة والحرية والمساواة بين جميع الأفراد المكونين للجماعة السياسيةmiddot; وهذا ما يفسر التحلل والانفجار الذي أصاب العديد من الشعوب والمجتمعات التي كانت تبدو لفترة قريبة وكأنها نجحت في تكوين مجتمعات وطنية، في العالم أجمعmiddot;
والحال أن الفكرة الوطنية، والحركة التي ارتبطت بها، قد نشأت في العالم العربي، في سياق الكفاح من أجل الاستقلال ضد القوى الاستعماريةmiddot; وتطابق مفهومها أيضا مع الحفاظ على هذا الاستقلال وتحقيق الأجندة المرتبطة بهmiddot; وبقيت في الحقيقة ''مشروع وطنية'' ينتظر التحقيق عبر أجندة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وبرامج عملية، أكثر منها حركة ناجزةmiddot; ولا تختلف هذه النشأة عما حدث مع جميع القوميات والدول الوطنية العديدة التي ولدت في الكفاح ضد عدو خارجي، وليس بالضرورة ضد سلطة قهرية استبدادية داخليةmiddot; لكن، بعكس ما حصل في معظم البلاد العربية، لم تمثل الحقبة الوطنية المرتبطة بالاتحاد، ضد خارج عدو، إلا فترة بسيطة شكلت مدخلاً نحو حقبة التأسيس الوطني الداخلية، أي حقبة بناء العلاقة الوطنية الجديدة التي تعيد إخضاع الدولة للمجتمع والجماعة لقانون المساواة والندية، والتي تكون سمة المجتمعات الوطنيةmiddot;
أما في المنطقة العربية التي دخلت في سياسة العصر، مفككة ومشتتة ومفتقرة لقيادة وطنية على مستوى التحديات الخارجية والداخلية، فلم تنته معركة الصراع ضد النفوذ أو السيطرة الأجنبية مع نيل الاستقلال ولكنها استمرت بعده بصورة أقسى، ولو على أسس جديدة سياسية واقتصاديةmiddot; ولذلك عملت حقبة ما بعد الاستقلال على تكريس مفهوم المواجهة الخارجية أكثر مما ساعدت على فتح آفاق جديدة للانتقال من مفهوم سلبي للوطنية، يؤكد مركزية التضامن ضد آخر، نحو مفهوم إيجابي يؤسس للحريات الفردية ولدولة المؤسسات القانونيةmiddot; فقد دشن الاستقلال حقبة تالية من الضغوط السياسية والاقتصادية، بل والعسكرية، الأجنبية الرامية إلى احتواء الحركات الوطنية، وإخضاع الدول الفتية والمجتمعات إلى منظومة الأحلاف الأجنبية، في سبيل إبقاء السيطرة عليها وتأمين المصالح الاستراتيجية، النفطية والجيوسياسية والسياسية الخاصة بهاmiddot; وكان لقيام إسرائيل، والحرب المستمرة التي فجرتها حركتها الاستيطانية، دور كبير ومتواصل أيضا في ترسيخ المضمون الخارجي الذي تبلور في حقبة الصراع ضد الاحتلال للوطنيةmiddot; وقد أخفقت الوطنية الموجهة للخارج في تحقيق أهدافها، وأخذت بالانحسار منذ حرب ''حزيران'' يونيو ،1967 لتخلف وراءها حركة شعبية ضائعة وقيادات حائرة لم تلبث أن تفككت وتفسخت أمام إغراءات السلطة المطلقة الموروثة والضغوط الخارجيةmiddot; أما التيارات الإسلامية التي طرحت نفسها بديلاً لهذه القيادات فقد دخلت بسرعة في طريق مسدود بسبب أسلوب المواجهة العنيفة الذي تبنته في عملها الداخلي والخارجيmiddot; وما نعيشه الآن من الانقسام والتخبط والخضوع لاستراتيجيات الدول الكبرى وفقدان المبادرة الاستراتيجية هو النتيجة الطبيعية لهذا الفراغmiddot;
ولا أعتقد أن من الممكن الرد على التحديات الخارجية من دون إعادة بناء الحياة الوطنية في البلاد العربيةmiddot; ولن يكون من الممكن تحقيق ذلك من دون العودة إلى الأسس التي لا تقوم جماعات سياسية مستقرة وفاعلة من دونها، أعني أسس القانون والمشاركة والحرية الفردية والمساواة والإبداع والإنجازmiddot; وهو الطريق الوحيد لاستعادة المبادرة في معركة تحرير الأرض العربية واسترداد السيادة التي ستسمر بالتأكيد لسنوات طويلة قادمةmiddot; ومن دون ذلك يخشى ألا يكون نصيبنا من معاركنا الخارجية القادمة سوى المزيد من الهزائم والخساراتmiddot;
التعليقات