الأحد:08. 01. 2006

سمير سرحان



حادث غريب حدث منذ عدة أسابيع في باريسrlm;..rlm; فقدت فتاة في السادسة عشرة من عمرها وجهها كاملا بعضة كلب شرسةrlm;..rlm; كانت تمشي في الطريق ذاهبة لزيارة احدي صديقاتها عندما هجم عليها هذا الكلب المفترس ومزق وجهها ولم تعد بوجهrlm;.rlm;

أصابت هذه الحادثة ـ عضة الكلب ـ الرعب في نفسيrlm;..rlm; فكل منا معرض لعضة كلب ـ وإن لم تكن هذه العضة عضة حقيقية ـ فقد تكون عضة معنوية أو أدبية أو طعنة في الشرف أو طعنة في الذمة أو الأخلاق لمجرد الانتقام أو التشويه ومع تقدم الحياة الحديثة والتزايد المطرد في وسائل التعبير أصبح تشويه إنسان لإنسان آخر من الأمور الطبيعية التي يدرجها البعض في بند حرية التعبيرrlm;.rlm;

لكن ماحدث مع تلك الفتاة البريئة ـ التي فقدت وجهها ـ أثار سؤالا خطيرا هوrlm;.:rlm;أين وجه الفتاة ؟rlm;!rlm; وهل هذا الذي وضعه الأطباء مكان الوجه المفقود هو وجه الفتاة التي هاجمها الكلب أم وجه آخر لفتاة ميتة وأي الوجهين يمكن أن يحمل ملامح شخصية الفتاة الحية النفسية والعقليةrlm;..rlm; وهل الوجه يعبر تماما عن الشخصيةrlm;,rlm; أم أنه مجرد مجموعة من الملامح التي يمكن الاستغناء عنها ووضع ملامح أخري بدلا منها ودون أن يكون لذلك أي معني؟rlm;!rlm;

وهنا أيضا يثور السؤالrlm;:rlm; هل تحب أن تعبر بهذه الملامح الأخري عن شخصية أخريrlm;,rlm; أو حياة أخري أو وضع أخلاقيrlm;,rlm; أو اجتماعي آخرrlm;.rlm; ويظل السؤال يطل برأسه أين وجهي؟ فعندما تتغير وزارة مثلا ويجيئون بغيرهاrlm;,rlm; فهل مازالت هذه الوزارة الجديدة تمثل وجه الوطنrlm;..rlm; ما الذي مثل الوطن بالضبط الخطط والمشاكل والأفكار والحلول المقترحة وفلسفة بناء الحياة علي هذه القطعة من الأرض أم تغيير الوجوهrlm;..rlm; الوجوه فقط؟ فإذا كانت المسألة تغييرا في الوجوه فقط فإن هؤلاء الجدد سينظرون إلي وجوههم الجديدة فيجدونها قد اختلفت عن سابقتها أو تغيرت أو اختفت ويظل السؤال دائما يلح علي كل واحد منهم كل لحظةrlm;..rlm; أين وجهي؟rlm;!rlm; وبالتالي أين فكري وفلسفتي والحلول الخاصة بي لمشكلات هذا المجتمع المعقد؟rlm;!rlm; نرجو أن يكون ذلك شأن الحكومة الجديدة عندناrlm;.rlm; وأرجو ألا نجدها ذات يوم تتساءل أين وجهي؟

عالج الكاتب الايرلندي العبقري أوسكار وايلد هذا الموضوع حين كتب روايته العظيمة صورة دوريان جراي وهي عن شخصية من الشخصيات الارستقراطية الانجليزية لها وجهانrlm;:rlm; وجه حقيقي مليء بالتجاعيد يحمل كل الشر والأفعال السيئة التي ارتكبها في حياتهrlm;,rlm; ووجه آخر بريء كل البراءة يحمل ملامح جمال الروح ونقاء السريرةrlm;.rlm;

ووضع وايلد الوجه الشرير في المرآة رغم أنه الوجه الحقيقيrlm;..rlm; وترك الوجه البرئ يتجول به في الشوارعrlm;..rlm; ويقابل به المعارف والأصدقاء ويذهب به إلي العمل رغم أنه ليس الوجه الحقيقيrlm;..rlm; وعندما خطر له النظر في المرآة ذات يومrlm;,rlm; ذهل لما رأيrlm;.rlm;

فقد رأي وجهه وقد امتلأ بالتجاعيد وبعلامات الشرrlm;,rlm; وبتعبيرات الحقد والضغينة وعندئذ سقط مغشيا عليهrlm;.rlm; وفي تلك اللحظة اختفي الوجه البشع الموجود في المرآة وظهر هذا الوجه البشع فوق رأس الشاب الجميل دوريان جراي وبهذه اللقطة الخيالية نعود مرة أخري إلي مايجري للبشر كل يوم فلمعظم هؤلاء البشر وجهانrlm;:rlm; احدهما مليء بالشر والحقد والضغينةrlm;.rlm; والآخر مليء بالبراءة والطيبة والأخلاق الحميدةrlm;.rlm;

ولكن ماذا لو فقد الانسان الوجهين معا ولم يعد به أية ملامح علي الاطلاقrlm;..rlm; هذا ماحدث في ليلrlm;26rlm; نوفمبر الماضي حين دخلت المستشفي إحدي الآنسات بلا وجه بعد أن أكل أحد الكلاب المسعورة وجهها وقضي علي ملامحهاrlm;..rlm; وتكون فريق من الجراحين علي رأسهم البروفيسور برنارد ديفوشل وادخلوا الفتاة إلي غرفة العمليات وهم يواجهون حالة مستحيلة وهي اعادة تركيب وجه للفتاة أو نقل وجه آخر من فتاة ماتت حديثا اليهاrlm;.rlm;

وعلي مديrlm;26rlm; ساعة قام الأطباء بنقل وجه فتاة متوفاة إلي وجه الفتاة التي عضها الكلبrlm;..rlm; في عملية كادت تكون مستحيلةrlm;..rlm; ولكنها نجحت نجاحا كاملاrlm;..rlm; فقد كانت احتمالات رفض جسدها للوجه الجديد بسيطة للغايةrlm;,rlm; وكان عليها بعد أن وهبها الله الحياة مرة أخري ـ علي يد هذا الجراح العبقري وزملائها ـ أن تعيش من جديد بوجه انسان آخرrlm;!rlm;

وهذه هي القضية التي يتعرض لها معظمنا الآنrlm;..rlm; ليس فقط في مصر ولكن في بلاد كثيرة من العالمrlm;..rlm; وهذه هي القضية التي تشغل كل فرنسا بل وأوروبا الآنrlm;,rlm; كيف يعيش انسان بوجه انسان آخر؟

وتتسع المسألة لتشمل الآن الحديث الدائر حول نجاح أو فشل الاتحاد الأوروبي في خلق مجتمع جديد لأوروبا المعاصرةrlm;.rlm; فكل بلد من بلاد الاتحاد يستخدم نفس العملةrlm;,rlm; وينتج نفس المنتجاتrlm;,rlm; ويحاول أن يتبع نفس الأسلوب في الحياةrlm;.rlm; أي أن كل بلد من بلاد أوروبا يعيش بوجه آخر غير وجهه الأصليrlm;.rlm;

فقد كان من شأن الاتحاد الأوروبي أن قام بتغيير وجه كل بلد من البلاد الأعضاء في الاتحاد ولكن بعد أن أدرك الجميع ـ حكاما وشعوبا ـ أن شيئا غريبا قد حدث فقد فوجئوا بفقد وجوههمrlm;..rlm; بمعني أن كل دولة كان لها تاريخrlm;,rlm; وتراثrlm;,rlm; ولغةrlm;,rlm; وعملةrlm;,rlm; وسلوكيات حضارية معينة تخصها هي وحدها وتميزها عن بقية الدول حتي ولو كانت جميعا واقعة في أرض واحدة يسمونها قارة أوروباrlm;.rlm; فقدت كل ذلك في ضربة واحدة وأصبحت بسبب المصالح الاقتصادية فردا في مجموع أو وجها مختلفا عن الوجه الحقيقيrlm;.rlm;

وكانت البلاد ذات الحضارات والثقافات العريقة والتي صنعت حاضرها بثورات دامية مثل فرنساrlm;..rlm; وبفلسفات عميقة غيرت مسار الفكر العالميrlm;..rlm; أو من احتج علي هذا الحصار داخل هذا الوجه الجديد وهو الاتحاد الأوروبيrlm;..rlm;

ومن الجانب الآخر فإن المؤسسات النمساوية الثقافيةrlm;,rlm; ومؤسسات المجتمع المدني هناكrlm;,rlm; أخذت تهاجم الاتحاد الأوروبي هجوما شديدا خاصة تدخل المؤسسات الأوروبية في الشئون الداخلية لـrlm;25rlm; دولة هي دول الاتحادrlm;.rlm; طبقا لما قاله المستشار النمساوي وولف جانج شوذل الذي احتل منصب رئيس الاتحاد الأوروبي يوم الاحد الماضي ولمدة ستة شهورrlm;.rlm; والبالغ من العمر ستون عاماrlm;:rlm; أن أوروبا تحتاج الآن إلي لحظات من الخيال والمرونة والأفكار الحرة الجديدة التي تحررها من قيود الاتحاد الأوروبي وتؤكد استقلالية ثقافة كل منهاrlm;(rlm; سؤالrlm;:rlm; هل ينطبق الأمر علينا نحن العرب؟rlm;)rlm;

وحذر من استحالة أن تصبح تركيا جزءا من الاتحاد الأوروبي بإعتبار أنه ليس لها تراث أوروبي عريقrlm;..rlm; وينادي المستشار النمساوي بوضع دستور جديد خلال عامrlm;2006,rlm; وأن هذا الدستور لابد أن يوضع بعد عقد مؤتمرات واسعة للحوار مع كافة فئات المجتمع بما فيهم العلماءrlm;,rlm; والكتابrlm;,rlm; والصحفيونrlm;,rlm; وأساتذة الجامعات الذين يجب أن يعتمد عليهم المجتمع في مده بالأفكار الجديدة الخاصة بالتعديل الدستوريrlm;(rlm; لاينادي أن يقتصر هذا الحوار الوطني علي الأغلبية الحزبيةrlm;)rlm; والغريب أن كل هذه الأفكار تشبه إلي حد كبير مايدور في بلادنا فيما يتعلق بمجتمعنا العربيrlm;.rlm;

rlm;(rlm;فهل مايدور الآن عندنا هي افكار سياسية وثقافية تدور في العالم بأسرهrlm;)rlm;

ولم يعد المجتمع العربي بعد غزو العراق والتحرش بسوريا وتهديد مصر والسودان بشكل غير مباشر بعيدا عن عملية تغيير الوجه التي تخطط لها الولايات المتحدةrlm;,rlm; كما أصبح من الواضح أن هناك ضرورة بالنسبة لمصر لإجراء تعديلات أكثر في الدستور بعد أن فتح الرئيس الباب علي مصراعيه لتحقيق الديمقراطية الحقة من خلال تعديل الدستور بعد أن كان التعديل أمرا مستحيلا كالمقدساتrlm;!rlm; وها هي بقية دول أوروبا المتحدة تطالب بتعديل الدستور فهي تؤكد هويتها بعد أن جاء الاتحادrlm;(rlm; أو مايشبه الحكم الشموليrlm;)rlm; يفقدها هذه الهويةrlm;.rlm;

كما أن هناك ضرورة لتأكيد الهوية الثقافية لكل بلد من البلاد العربيةrlm;,rlm; بحيث يمكن أن نتحدث عن ثقافات عربية لا ثقافة واحدةrlm;,rlm; وإن كان يجمعنا الدين والغةrlm;,rlm; فهل يمكن أن نعتبر الاسلام دينا واحدا في كل البلاد العربية؟ بالطبع لاrlm;..rlm; وهناك علي الأقل الفرق المختلفة مثل الجهاد والاخوان والسنة والشيعة والاباضية غير فرق الشيعة المختلفة مثل الاسماعيلية وغيرهاrlm;,rlm; أما بالنسبة للغة فلا يمكن أن نتحدث اليوم عن لغة عربية واحدة هي الفصحيrlm;(rlm; وإن كانت هي لغة القرآن والتعليمrlm;)rlm; وإنما أصبح لكل بلد لهجته المحلية المستمدة من العربيةrlm;..rlm; كما أصبحت هناك لهجات مختلفة داخل البلد الواحدrlm;..rlm;

وبالتالي فطبيعة اللغة يجب أن تعاد دراستها لأنها العامل الوحيد تقريبا الذي يجمع بين الدول العربيةrlm;,rlm; وإذا اختفي من الشعوب هؤلاء وبين المثقفينrlm;,rlm; فلن يعود لنا عالم عربي حقيقيrlm;,rlm; أما تأكيد الهوية الثقافية في كل بلد من البلاد العربية أصبح الآن في رأيي ضرورة أهم من أي ضرورة أخريrlm;..rlm; ومن غيرها سوف يفقد كل بلد عربي وجهه إلي الأبدrlm;.rlm;

فالعراق تحت الاحتلال الأمريكي يكاد يفقد تدريجيا هويته الثقافيةrlm;..rlm; وأعتقد أن مايجري هناك من أعمال المقاومة لايقتصر فقط علي محاولة تحرير البلاد من الاحتلال وإنما إعادة العراق قوة فاعلة ومؤثرة ثقافيا في المنطقة أي الاحتفاظ بالهوية الثقافية العراقيةrlm;,rlm; ومايجري من محاولات أيضا لخلق المشاكل الحادة بين سوريا ولبنان بعد أو بسبب اغتيال رفيق الحريريrlm;..rlm; هو محاولة لفصل هذين البلدين ثقافيا ليصبح كل منهما لقمة سائغة في فم الاحتلال القادمrlm;.rlm;

ومايدور الآن من بوادر الفتنة الطائفية بين الأقباط والمسلمينrlm;..rlm; والفتنة الدينية بين الاخوان وغيرهم من المسلمين المعتدلين في مصر هي محاولة تظهر في هذا التوقيت بالذاتrlm;..rlm; لتدمر استقلالية الثقافة المصرية لحساب أطماع الغرب وخاصة القطب الأوحد وباسم الدين الذي لايستطيع أن يجادله أحدrlm;.rlm;

والسؤال الآنrlm;:rlm; إننا لابد أن نبحث مثل الفتاة التي أجرت عملية في فرنسا عن و جهنا الحقيقي لا المزيف والذي أكله الكلبrlm;..rlm; ولابد أن نجد هذا الوجه وبسرعةrlm;..rlm; علينا أن نسأل أنفسنا الآن ـ وفورا ـ أين وجهي؟rlm;!rlm;وعلينا أن نستعيد وجوهنا الآن حتي لانعيش بوجه مزيفrlm;!rlm;