هذه السطور هي مقتطفات من شهادة امرأة اردنية تقيم في صنعاء منذ 11 سنة. تبدأ من مشهد في المطار، لتنتقل الى الشوارع، فالى معهد دراسات الجندرة في كلية الآداب في العاصمة اليمنية.
حين هبطت بنا الطائرة في مطار صنعاء يوم 12/12/1994، كنت فرحة بتحقق امنيتي: ها قد حل، اخيراً، موعد جمع شمل اسرتنا، انا وطفلاي وزوجي الذي سبقنا قبل 3 سنوات، للعمل في اليمن.
مشهد المطار
لا ادري ان كان علي ان اعتذر مسبقاً من اليمنيين عن عنصريتي المحتملة، قبل ان اقول ان المشهد الاول الذي ابصرته في المطار، كان يبعث على الكآبة: رجال داكنون، مهملون شعر ذقونهم، يلبسون ثيابا داكنة، بل متسخة، من الزي اليمني التقليدي. افواههم منتفخة بخزين مسحوق ورق القات الذي تخرج منه الى جنبات شفاههم نثرات صغيرة خضراء مع سائل اخضر لزج يسيل من مضغ النبتة اليمنية quot;الوطنيةquot; الاولى.
انها النبتة التي سوف تنغِّص حياتي الزوجية والاسرية في السنوات الثلاث الاولى من اقامتي في صنعاء. ذلك اني صعقت حين رأيت زوجي يخزّن القات مثل سائر الرجال اليمنيين، وبلغت مناكفاتنا وخلافاتنا الزوجية حد استغاثتي بأخي، علّه يساعدني في حمل زوجي على الاقلاع عن ارتياد مجالس القات في المقيلات وعن اقامتها في بيتنا. هذا قبل ان اصير على شفير طلب الانفصال والطلاق الذي، بدل اقدامي على طلبه، جرّني زوجي، متعاونا مع صديقة يمنية، الى مشاركته جلسات التخزين بين وقت وآخر... فدخلت في الحياة اليمنية من بابها الوحيد المشرع للناس جميعا: مجالس مضغ القات وتخزينه في المقيلات اليومية التي علي ان اعترف باستمتاعي بها استمتاع أهل اليمن الذين يستحيل العيش في ديارهم من دون ارتياد المقيلات التي تشكل محور دورة حياتهم اليومية، وناظمها الاول. اما الذي يأخذه العناد ويصرفه عن ارتيادها، فيفرد quot;افراد البعير المعبّدquot; ويستوحش حتى الرحيل عن اليمن.
خيم النساء
في المطار كنت قد انتحيت جانبا في انتظار انجاز معاملات خروجي منه، فشعرت ان منظري غريب بشعري السافر وثيابي الملونة وسط سواد ثياب النسوة ودكنة الرجال الذين كان غير الحفاة منهم ينتعلون مشايات سميكة من جلد او بلاستيك، فيما هم يتكلمون بأصوات عالية ونبرات حادة، كأنهم يتشاجرون.
المشهد الثاني الذي صدمني في صنعاء، كان مشهد النساء اليمنيات القابعات تحت quot;الخيمquot; السود في الاماكن كلها. وحين تعرفت الى بعضهن واحتككت بهن في بدايات اقامتي في صنعاء، لم ترق لي رائحتهن، قبل ان اكتشف، لاحقا، ان الاشياء والروائح والناس في البلاد الغريبة التي نصل اليها، لا تبقى على حالها، بل تتبدل او نتبدل نحن، بعد حين من اقامتنا فيها. والدليل على تعودي مشاهد الحياة في اليمن، وعلى عدم ارتياحي لمشاهد النساء اليمنيات تحت quot;خيمهنquot; السود، اني كلما عدت في زيارة الى مدينتي الأولى عمان، اظل طوال يومين او ثلاثة مصابة بما يشبه الغشيان البصري، فيما انا احدق في المشاهد الملونة للناس من حولي. كأني في تحديقي هذا انزع عن عيني غشاوة سوداء، لأتعود من جديد مشاهد طبيعية واليفة للناس والعالم من حولي. فالناس في عمان يلبسون ثيابا ملونة، وكثيرات هن النساء السافرات الشعر والوجوه والارجل والايدي.
الخوف والغفلة
البيت الاول الذي دخلته في صنعاء كان يبعث على الكآبة ايضا. لم ابصر روعة العمارة اليمنية التي سمعت الكثير عن روعتها. البيوت اليمنية منكفئة على دواخلها، ظليلة غير منورة، على خلاف البيوت التي تعودتها في عمان. بعد وقت تعودت الحياة الداخلية في البيوت، وعزائي اجتماع شمل اسرتنا. لكني اليوم، بعد 11 سنة من الاقامة في صنعاء، لا أدري ان كان ذلك العزاء يكفي وحده للاستمرار في هذه الاقامة.
قليلا ما اتساءل عما اذا كانت كآبات المشاهد الاولى التي صدمتني في اليمن، قد زالت من نفسي، ام انها غارت وترسبت فيها، فعايشتها بطيئا بطيئا حتى النسيان والغفلة عنها متروكة مهملة في موضع ما خفي من حياتي ونفسي. ربما عليَّّ ترجيح غفلتي عن تلك الكآبات، لأني وزوجي مزمعان على مغادرة اليمن بعد سنتين او ثلاث، كي نجنّب اولادنا مغبة التورط بعيدا في الحياة اليمنية، مثلما تورطت انا في مضغ القات وتخزينه، وتورط زوجي من قبلي. فنحن الكبار نستطيع القول ان لدينا حياتنا وذكرياتنا الماضية، وشخصياتنا التي تصلب عودها، فتبلورت واكتملت، على خلاف اولادنا الذين عاشوا طفولتهم وصباهم الاول في اليمن. ذلك ان تعليمهم في مدرسة خاصة انشأها مهاجرون هنود، تخلط بين اولاد من جاليات اجنبية آسيوية واوروبية، لم يعد يكفل الحؤول دون توغلهم في حياة المجتمع اليمني العام الذي نحرص على حمايتهم من عاداته وتقاليده، لئلا يتشربوها ويتطبعوا بها في غفلة منا، فترسخ في نفوسهم واجسامهم الطرية، ويشبّون عليها.
الجندرة والنقاب
في البداية اقتصرت علاقاتي على نساء اردنيات مقيمات في صنعاء. لكني سرعان ما تعرفت الى يمنيات كثيرات في كلية الآداب معهد دراسات الجندر الذي انشأته الدكتورة رؤوفة حسن بتمويل هولندي. امضيت ثلاث سنوات طالبة في المعهد، ابتداء من سنة 1996، وحتى اقفاله عقب استضافته ندوة تحدث فيها باحث مغربي عن الجنس والاختلاط والتحرر الجنسيين، فتعرض المعهد لحملة تشهير اخلاقي شنها ضده حزب الاصلاح اليمني ذو النزعة الاسلامية المتشددة بزعامة رئيس مجلس النواب في اليمن، عبدالله الاحمر. وفي خضم هذه الحملة تعرضت رؤوفة حسن نفسها لضغوط ومضايقات حملتها على مغادرة اليمن الى القاهرة فباريس والولايات المتحدة الاميركية.
كنا في المعهد نحو 20 طالبة و20 طالبا. لفتني ان الطالبات المنقبات بالسواد اجرأ في الكلام والمناقشة من غير المنقبات، اي السافرات الوجوه والمقتصر نقابهن الاسود على شعرهن واجسامهن كلها. اما السافرات الوجوه والشعر، فكن اكثر الطالبات تحفظاً واضطراباً وخجلاً في الكلام والمناقشة. كأن المنقبات الاجسام والوجوه التي لا تظهر فيها سوى العيون، كن يتمترسن خلف نقابهن هذا الذي يريحهن ويقيم بينهن وبين العالم والناس حاجزا يكسبهن جرأة اقرب الى الوقاحة في المجادلة والمشاكسة الهجومية، فيتسلطن في الكلام والرأي اللذين يصدران عن قوة واحكام متعالية مكتملة تقيم خارج حياتهن وحواسهن واختباراتهن، فيما هن، المتكلمات المجادلات، لسن سوى واسطة لتلك القوة التي تتكلم فيهن او عبرهن. هذا على خلاف السافرات الوجوه والشعر اللواتي تداخل الحيرة كلامهن الذي يصدر عن انفسهن وحياتهن، غير مكتمل ولا مغلق ولا منزل عليهن من قوة عليا تقيم في ملأ أعلى.
كنت احدق في المنقبات مصابة بالذهول متسائلة في نفسي، ان كان كلامهن يطلع، هكذا، جريئا وقحاً من اعينهن السافرة وحدها خلف ذلك الحصن الاسود الذي يقنّع الاجسام والجباه والانوف والافواه. هذا قبل ان ادرك ان انتساب هؤلاء الطالبات الى معهد الدراسات الجامعية للجندرة، كانت غايته اثبات حضورهن فيه، واستعماله منبرا لبث افكارهن وكلماتهن التي يحفظنها مكتملة ثابتة، وجئن لاعلانها في شراسة حربية بغية تعطيل المناقشة وتخريب المعهد... وهذا ما حصل في النهاية بعد تلك الندوة التي شارك فيها الباحث المغربي.
الاسماء المحرمة
الطلاب العشرون الذين انتسبوا الى المعهد الجامعي، كانوا كلهم مقيمين على عقلية تقليدية محافظة وموروثة عن اهلهم. احدهم، وهو باحث في مركز الدراسات اليمنية الذي يديره عبد العزيز المقالح، وكان رئيسا لاتحاد الكتاب والشعراء في اليمن، رفض ان يذكر اسماء زوجته وبناته، جريا على عادة يمنية شائعة، تحرم على الرجال التلفظ بأسماء حريمهم العلم. كأن ذكر اسمائهن هذه والافصاح عنها واعلانها تكشف سترهن، بكل عوراتهن، خلف نقابهن الاسود. حتى ان اسماء الامهات تندرج بدورها في هذا التحريم الذكوري الساحق. فالرجال اليمنيون حين يتحدثون عن زوجاتهم وامهاتهم وبناتهم، يقولون الزوجة والام والبنت، هكذا مع أل التعريف التي هي في الحقيقة والواقع أل التجهيل والاغفال المطلقين الموازيين لنقاب التجهيل والاغفال الاسود الذي يقنّع اجسام النساء ووجوههن. واحيانا يقول الرجل اليمني quot;العائلةquot; حين يتحدث عن زوجته، حاذفاً، على نحو مستديم، ياء المتكلم التي تكشف محرّماً، اذا اتصلت بأسماء الجنس المغفلة المجهولة والمستترة: الزوجة والعائلة والام والابنة والاخت... الخ.
طالبة من طالبات المعهد الجامعي السافرات الوجه فقط، كانت زميلاتها المنقبات ينعتنها بـquot;الفاتشةquot;، جريا على صفة يمنية شائعة تلاحق السافرات الوجوه، للحط من شأنهن في اعتبارهن متفلتات سائبات. لنزع هذه الصفة عنها نقّبت الطالبة هذه وجهها، وراحت تصول في المناقشات وتجول جريئة حتى الوقاحة على مذهب المنقبات في الرأي واداء الكلام، ثم لم تلبث ان تزوجت طالبا من حلقة طلاب المعهد، كأنما نقابها الجديد هو الذي منحها القدرة على جذب ذلك الطالب واستمالته، بعدما كانت في عداد quot;الفاتشاتquot; اللواتي يحرمهن سفورهن من جرأة المنقبات ومقدرتهن على جذب الرجال، بل الايقاع بهم وصولا الى الزواج الذي قبل حصول عقده الشرعي ومراسيمه، خرجت الطالبة المنقبة حديثا مع الذي سيصير زوجها، وانفردت به انفرادا خاصا وحميما، يستحيل على السافرة الاقدام عليه.
وزير وزوجتان
امرأة اخرى من طالبات معهد دراسات الجندرة الجامعي، وهي من المنقبات وزوجة وزير ثقافة سابق في الحكومة اليمنية، وام لخمسة اولاد، وتحمل شهادة بكالوريوس في علم الاجتماع، واخرى مثلها في اللغة العربية. صعقت حين علمت ان هذه المرأة قد قامت بتزويج زوجها من صديقتها التي اسكنتها معها في بيتها الزوجي والأسري.
ثم تضاعف انصعاقي حين سألتها مرة لماذا سعت في تزويج زوجها، وأجابت: هو يريد ويرغب، واطلعني على رغبته، فسعيت الى التقريب بينه وبين صديقتي التي احبها، فوفّقت في مسعاي، فزوجتهما، وها نحن نعيش على وئام في بيتنا، بلا مشاكل ولا مناكفات، ما دام يحق له بأربع واكتفى بي وبصديقتي، ولم يقصّر في حقي وحق اولادي، وفي ما نحتاجه مع ولدي صديقتي من زواجها السابق.
الزوج وزوجتاه من حزب الاصلاح اياه الذي كان حزب quot;الاخوان المسلمينquot; في اليمن، قبل ان يتزعمه الشيخ عبدالله الاحمر. ويقال ان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح هو الذي زعّم الاحمر على هذا الحزب ليظل ممسوكا ومراقباً وطوع ارادة حزب المؤتمر الحاكم، في دور المعارضة حيناً وفي دور تشكيل حكومات ائتلافية بين الحزبين، احيانا اخرى.
وحدي بين طالبات الجندرة لم اتفهم ذلك الزواج الثنائي بين رجل وامرأتين صديقتين تقيمان في بيت زوجي واحد. حتى الدكتورة رؤوفة حسن التي كانت جريئة في ادارة المناقشات في صفها الجامعي، ابدت شيئا من الاستنكاف عن متابعة المناقشة، ربما لأن زوج المرأة وزير في الحكومة.
صنعاء - محمد أبي سمرا
(الاحد المقبل، حلقة ثانية)
التعليقات