د.سعد الدين إبراهيم

ما‮ ‬يزال‮''‬الإسلام‮'' ‬كدين،‮ ‬والمسلمين‮ ''‬كبشر‮'' ‬يشغلون بقية العالم،‮ ‬وغير المسلمين‮. ‬ورغم أن هذا الانشغال كان قد بدأ قبل سنوات من تفجير‮ ''‬مركزالتجارة العالمي‮'' ‬في‮ ‬مدينة نيويورك في‮ ‬الحادي‮ ‬عشر من سبتمبر‮ (‬أيلول‮) ‬‭,‬2001‮ ‬إلا أن هذا الحدث الأخير كان فاصلاً‮ ‬حرجاً‮ ‬في‮ ‬هذا الانشغال،‮ ‬فقد تضاعف الاهتمام،‮ ‬وتضاعف معه الخوف من هذا الدين ومن أصحابه ومعتنقيه‮. ‬
ولا‮ ‬ينبغى لنا‮ ‬‭-‬‮ ‬نحن المسلمون‮- ‬أن ننكر هذه الحقيقة أو أن نكتفي‮ ‬برمي‮ ‬المتهمين والخائفين منا بتهم ساذجة،‮ ‬مثل‮ ''‬التآمر‮'' ‬أو‮ ''‬المؤامرة‮'' ‬على الإسلام‮. ‬فلا أحد،‮ ‬سواء كان فرداً‮ ‬أو جماعة‮ ‬يولد خائفاً‮ ‬أو متحاملاً‮ ‬من فرد آخر أو جماعة أخرى‮. ‬ولكن هذه المشاعر،‮ ‬وما‮ ‬يصاحبها من سلوك،‮ ‬هي‮ ‬أمور نكتسبها سواء من خبرات حياتية مباشرة أو قرأوا عنها‮. ‬ولا‮ ‬يعني‮ ‬ذلك انعدام المغرضين والمضللين،‮ ‬الذين لأغراض سياسية ومادية،‮ ‬أي‮ ‬دنيوية خالصة،‮ ‬يقومون بالشحن النفسي‮ ‬والتحريض الثقافي‮ ‬والحضاري‮ ‬ضد الإسلام والمسلمين‮. ‬
ولكن هذا الكاتب من أنصار المدرسة النقدية،‮ ‬التي‮ ‬تبدأ بفحص الذات الجماعية،‮ ‬قبل،‮ ‬أو على الأقل،‮ ‬مع اتهام الآخر الجماعي،‮ ‬بالتحامل علينا،‮ ‬أو استهدافنا كشعوب أو كثقافة ودين‮. ‬فحتى إذا كان ذلك قد حدث فى حقبات تاريخية سابقة‮ ‬‭-‬‮ ‬مثل زمن الحروب الصليبية،‮ ‬أو عهد الاستعمار فى قرون سابقة‮ ‬‭-‬‮ ‬فلا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نظل أسرى تلك الأزمان السالفة‮. ‬فكل زمان وكل مكان تحكمه قواعد وقوانين متغيرة،‮ ‬وخاصة بها‮. ‬نعم لا ننسى الماضي،‮ ‬ونتعلم من دروسه‮. ‬ولكن نتعلم مع الحاضر بمنظار الفهم وآليات للسلوك تتفق مع المعطيات وموازين القوى المعاصرة‮. ‬
إن ما حدث فى نيويورك صباح‮ ‬11‮ ‬سبتمبر‮ ‬2001‮ ‬وأودى بحياة ما‮ ‬يقرب من ثلاثة آلاف من البشر،‮ ‬معظمهم من الأمريكيين المدنيين،‮ ‬ومن ثلاثين جنسية أخرى،‮ ‬الذين كانوا‮ ‬يسعون سلمياً‮ ‬في‮ ‬الأرض لكسب أقواتهم،‮ ‬ولم‮ ‬يفعلوا شيئاً‮ ‬لإيذاء الإسلام والمسلمين‮. ‬بل وقيل إن من بين الضحايا فى ذلك الصباح ما‮ ‬يزيد عن مائة مسلم من جنسيات آسيوية وشرق أوسطية وإفريقية مختلفة‮. ‬وكان الذين قاموا بتفجير برجى التجارة ادعوا أنهم فعلوا ذلك باسم الإسلام والمسلمين معنوياً،‮ ‬بإعطائهما سمعة العنف والبربرية والإرهاب وأساؤا لدار الإسلام مادياً،‮ ‬بتعريضهما لانتقام الأقوياء وغزواتهم،‮ ‬على الأقل من بلدانها،‮ ‬وهما أفغانستان،‮ ‬ثم العراق،‮ ‬إلى اليوم‮. ‬
وقد دفعت هذه التطورات العقلاء من المفكرين الإسلاميين إلى أن المعتقدات والأحكام والممارسات الإسلامية تحتاج إلى مراجعات جادة،‮ ‬لتنقيتها من الشوائب والخزعبلات التي‮ ‬علقت بالإسلام،‮ ‬على مر العصور،‮ ‬وشوهته،‮ ‬أو جمدته في‮ ‬متاحف القرون الوسطى‮. ‬وكان المفكر الإسلامي‮ ‬النابه جمال البنا،‮ ‬من أوائل من دعوا إلى إصلاح الفقه الإسلامي،‮ ‬وتجديده بإعادة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه،‮ ‬وعدم قصره على‮ ''‬رجال الدين‮''‬،‮ ‬بحيث‮ ‬يتسع هذا الفقه لمستجدات القرن الحادى والعشرين،‮ ‬بعد أن ظل حبيس القرن الثالث الهجري،‮ ‬العاشر الميلادي‮. ‬وضمن هذه المبادرة،‮ ‬وأمثالها،‮ ‬لإصلاح ما أفسده‮ ‬غلاة المسلمين،‮ ‬كان لابد أن‮ ‬يصطدم المجددون بفريق من‮ ''‬الأدعياء‮''. ‬الفريق الأول،‮ ‬يريد احتكار الحديث باسم الإسلام،‮ ‬بدعوى أنه درس وتخصص‮. ‬وحقيقة الأمر أن هؤلاء سواء في‮ ‬الأزهر،‮ ‬أو الزيتونة،‮ ‬أو النجف،‮ ‬أو قم،‮ ‬لم‮ ‬ينجحوا خلال القرنين الماضيين فى بلورة ما‮ ‬يكفى وما‮ ‬يناسب متطلبات العصر الحديث‮. ‬بل أنهم‮ ‬،‮ ‬وبدعوى التخصص،‮ ‬أسهموا فى عزل الإسلام عن الحياة‮. ‬وكلما مني‮ ‬المسلمون بفشل أو انتكاس أو هزيمة‮ ‬،‮ ‬سارعوا بالاتهام بأن‮ ‬غير المسلمين‮ ‬يتربصون بنا شراً،‮ ‬ويكيدون لنا كيداً،‮ ‬ويريدون أن‮ ‬يطفئوا نور الله الذى اصطفى به الإسلام والمسلمين‮. ‬ونسأل أولئك الذين‮ ‬يريدون احتكار الاجتهاد والفتوى في‮ ‬الإسلام،‮ ‬بدعوى أنهم أهل الاختصاص،‮ ‬كيف نجح المسلمون الأوائل،‮ ‬ولمدة قرنين،‮ ‬فى تشييد أعظم إمبراطورياتهم،‮ ‬والتي‮ ‬امتدت من حدود الصين شرقاً‮ ‬إلى شواطئ الأطلنطي‮ ‬غرباً،‮ ‬وأداروا شؤون دينهم ودنياهم دون فئة متخصصة من مشايخ الأزهر أو آيات الله من قم أو النجف الأشراف؟ وكيف أنه مع ميلاد وترعرع هذه التخصصات المدرسية الدينية،‮ ‬بدأ التدهور فى أمور الدنيا والانحطاط في‮ ‬أمور الدين؟
أما الفريق الثاني‮ ‬من الأدعياء الذين‮ ‬يريدون احتكارالحديث باسم الاسلام والمسلمين،‮ ‬فهم من‮ ‬يعتقدون بأن التمسك بأهداب الدين وأحكامه،‮ ‬دون تهاون أو تخازل،‮ ‬هو المنقذ من الضلال،‮ ‬وهو الجدير باستعادة الفردوس المفقود‮. ‬أى عصر النبوة والخلفاء الراشدين أي‮ ‬ما ساد خلال العقود السبعة الأولى للاسلام‮. ‬وينسى هؤلاء الأصوليون المتشددون أن ثلاثة من الخلفاء الأربعة ماتوا قتلاً‮ ‬بسيوف أو خناجر مسلمين آخرين‮. ‬من الذين تلقوا صحيح إسلامهم على‮ ‬يد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى‮ ‬يد الصحابة الأولين من مهاجرين وأنصار‮. ‬أي‮ ‬أن عصر الخلافة الراشدة لم‮ ‬يكن فردوساً‮ ‬ولا عسلاً‮ ‬مصفى ولكنه كان مجتمعاً‮ ‬بشرياً،‮ ‬فيه كل أنواع البشر بأخيارهم وأشرارهم،‮ ‬بفجورهم وتقواهم‮. ‬والقرآن الكريم نفسه لم‮ ‬يتحدث أو‮ ‬يتوقع من المسلمين أن‮ ‬يكونوا مجتمعاً‮ ‬من الملائكة الذين لا‮ ‬يخطئون،‮ ‬ومن ثم فإن الأدعياء المتزمتين لا‮ ‬يفقهون صحيح دينهم ولا طبيعة دنياهم‮. ‬ولم‮ ‬يسأل أي‮ ‬منهم نفسه لماذا فشل كل من حاول أن‮ ‬يستعيد ذلك الفردوس المفقود على الأرض رغم تكرر المحاولات طيلة أربعة عشر قرناً؟ وحقيقة الأمر أن كل من حاول تأسيس المدينة الفاضلة أو المجتمع الطوباوي،‮ ‬مُني‮ ‬بنفس الفشل والإحباط،‮ ‬سواء فعلوا ذلك باسم الإسلام،‮ ‬مثل طالبان فى أفغانستان،‮ ‬أو آية الله في‮ ‬إيران،‮ ‬أو الترابيون فى السودان،‮ ‬أو حاولوا ذلك باسم الماركسية،‮ ‬كما حاول لينين وستالين في‮ ‬روسيا البلشفية،‮ ‬أو فيدل كاستروا فى كوبا اللاتينية‮. ‬أو باول بوت فى كنفوشيا الأسيوية‮. ‬
ربما كانت النماذج المجتمعية الأقرب لفردوس الإسلاميين المتشددين هي‮ ‬البلدان الإسكندنافية‮ (‬السويد والنرويج والدانمارك‮). ‬فهي‮ ‬أكثر مجتمعات الدنيا من حيث كفاءة الإنتاج والعدالة في‮ ‬التوزيع‮. ‬ولكن ما قد‮ ‬يأخذه الإسلاميون المتزمتون على هذه المجتمعات هو وفرة الحريات الشخصية،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك الحرية الجنسية،‮ ‬والسعي‮ ‬المشروع للمتعة والسعادة‮. ‬والإسلاميون المتشددون حسب ما نقرأ فى أدبياتهم،‮ ‬ونرى في‮ ‬ممارساتهم‮ ‬يعتبرون مثل هذه الحريات،‮ ‬إباحية وانحلال‮. ‬ومع ذلك‮ ‬ينسى هؤلاء المتزمتون،‮ ‬رغم إباحيتها،‮ ‬هي‮ ‬الأكثر ثراء وعدالة وتقدماً‮. ‬وأن نصف الشباب فى عالمنا العربي‮ ‬يحلم بالهجرة إلى هذه البلدان طبقاً‮ ‬لما أورده تقرير التنمية البشرية العربية للعام‮ ‬‭.‬2002‮ ‬
إن المشكلة إذن ليست في‮ ‬الإسلام القرآني‮ ‬كنصوص مقدسة،‮ ‬ولكن فى التفسيرات البشرية لهذه النصوص والتي‮ ‬جاءت في‮ ‬الغالب ملوثة بكل المقاصد الدنيوية‮. ‬ومن ذلك علاقة الإسلام بالسياسية،‮ ‬وقد قيل فى الموضوع إن‮ ''‬الدين قداسة والسياسية نجاسة‮'' ‬ولكن حتى مع صحة هذه المقولة،‮ ‬فإن من حق الإسلاميين أن‮ ‬يشاركوا في‮ ‬العمل العام‮. ‬المهم في‮ ‬هذه المشاركة أن‮ ‬يلتزم الإسلاميون بنفس الروح والجدية،‮ ‬وقواعد العملية الديمقراطية،‮ ‬وهي‮ ‬حكم القانون الوضعى،‮ ‬الذي‮ ‬يسنه البشر،‮ ‬واحترام حقوق المواطنة الكاملة للنساء ولغير المسلمين،‮ ‬ولمبدأ التداول السلمي‮ ‬للسلطة من خلال انتخابات دورية محددة المواقيت مقدماً‮. ‬واحترام الحريات الأساسية،‮ ‬ومنها حق التعبير والإبداع الأدبي‮ ‬والفني‮ ‬والالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية‮. ‬وهذا ما فعله حزبي‮ ‬العدالة والتنمية في‮ ‬كل من تركيا والمغرب‮. ‬وهما خلفيات وتوجهات إسلامية منذ انتخاب أعضائها برلماني‮ ‬البلدين في‮ ‬العام‮ ‬‭.‬2002‮ ‬ولذلك نقول أنه،‮ ‬مع الأداء الرفيع للإخوان المسلمين في‮ ‬الانتخابات البرلمانية المصرية فى أواخر العام‮ ‬‭,‬2005‮ ‬لا‮ ‬ينبغي‮ ‬لنساء مصر وأقباطها أن‮ ‬يخافوا،‮ ‬أو‮ ‬يفزعوا،‮ ‬أو‮ ‬يتقوقعوا‮. ‬ولكن أن‮ ‬ينغمسوا ويشاركوا و‮ ‬يحاوروا الإخوان وغيرهم من القوى السياسية‮. ‬فالمشاركة الفعالة هي‮ ‬التي‮ ‬تقي‮ ‬الجميع شر جنوح أو جموح الأقلية أو الأغلبية على السواء‮. ‬

‭*‬‮ ‬رئيس مجلس أمناء مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية.