د. سّيار الجميل


كيما ترى أهل العراق أنني أوطنت أرضاً لم تكن من وطني

ابن بري

اختلطت اليوم في ثقافتنا العراقية جملة هائلة من المفاهيم الأساسية التي تحتاجها الأجيال مع توالي الأيام، وتنوع الثقافات، وتعدد المراجع، وتفاقم الاعلاميات.. لقد اختلطت ليس على النشأ الجديد فحسب، بل حتى على المثقفين والمختصين والساسة والكتاب وحملة الشهادات العليا..

وهذا ما لم نجده البتة في ثقافات اخرى حتى العربية، علما بأن العراقيين عرفوا تلك laquo;المفاهيمraquo; واستخدموها على درجة عالية من الحذاقة والتركيز في استعمال المعاني منذ اكثر من قرن كامل..

وانهم لم يطالوا الالفاظ ان لم تكن في مواقعها الحقيقية كونهم وازنوا ايام عزّهم بين الالفاظ والمعاني وان كل ما يقولونه او يكتبونه له دلالاته من المعاني الصائبة، ولا يمكن خلط هذا بذاك.. ربما نجد اسهابا في الالفاظ واطنابا في الكلام ولكن قلما نجد خلطا فيها وانعدام معرفة لاستخدام ما لا يمكن استخدامه هنا او استخدامه هناك.

ان من أشدّ ما يؤلم حقا ان العراقيين - بشكل خاص ـ قد اضاعوا المعاني الحقيقية للوطنية نتيجة الظروف الصعبة التي مرّت عليهم منذ ازمان، فضلا عن حالة الفوضى الفكرية واللغوية التي يعيشون فيها.. اذ دوما ما يخلطون بين مصطلحات وشعارات.

ولعّل ابرز ما يعلن من خطايا في السياسة والاعلام وعلى لسان الكّتاب الجدد الذين ظهروا فجأة بعد سقوط النظام السابق وحتى في المؤسسات الرسمية العراقية اقتران مصطلح العراق الموّحد قديما بـ laquo;مصطلح العراق الاتحاديraquo; حديثا.. وكأن ليس للعراق وجود لا في التاريخ ولا في الجغرافية..

وكأنه ليس بوطن قديم جدا، بل ان laquo;الدولةraquo; غدت في العرف العام اهم من الوطن وهذه من اكبر جنايات ليس العراقيين وحدهم، بل حتى العرب في القرن العشرين.

وعليه، هل يمكننا ان نوّضح في مثل هذا الباب من laquo;مفاهيم اساسيةraquo; المعاني الحقيقية لمثل هذه المفاهيم التي يحتاجها الانسان العراقي يوميا والتي لابد ان تشغل باله وتفكيره ووجوده، ومن اجل التخلص من هذه الفوضى الفكرية التي تعّم حياتنا منذ قرابة خمسين سنة في عالم اليوم؟

معنى laquo;الوطنraquo; لغة:

الوطن (بفتح الواو والطاء): المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله .. والجمع أوطان. وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي اليها..

ومواطن مكة : مواقفها. وطن بالمكان وأوطن: اقام. وأوطنه: اتخذه وطنا. يقال: أوطن فلان ارض كذا وكذا أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها.. والموطن: مفعل منه، ويسمّى به المشهد من مشاهد الحرب، وجمعه مواطن . والموطن: المشهد من مشاهد الحرب.

وفي قوله تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. وأوطنت الارض ووطنتّها توطينا واستوطنتها أي اتخذتها وطنا.. اما المواطن (بفتح الميم والواو) فكل مقام قام به الانسان لأمر فهو موطن له.

. وعلى حد تعبير ابن سيدّه: وطّن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه فتحمّلت وذّلت له، وقيل: وطّن نفسه على الشيء وله فتوطّنت حملها عليه ( لسان العرب، المجلد 13، ص 451).

معنى laquo;العراقraquo; اصطلاحا:

لقد اختلف المعنى الاصطلاحي والضمني لـ laquo;العراقraquo; من زمن الى زمن آخر، اذ نجد في ادبيات العراقيين القديمة من يقول ـ مثلا ـ بـ laquo;ميزوبوتيمياraquo; aimatopozeM (بلاد ما بين النهرين)، او كما يسميه اكزانافون بـ بلاد وادي الرافدين دجلة والفرات.. والعراق مصطلح قديم اطلق على مناطق عدة، ولكن استقر على وضعه اليوم.

ولقد وجد نفسه على ايام العرب منذ قبيل عهد الفتوحات الاسلامية حتى امتدادات العثمانيين يتّكّون من قسمين اثنين: اولهما بلاد ارض السواد وثانيهما بلاد الجزيرة الفراتية (وبضمنها كردستان التي يطلق عليها: جبال الاكراد) كما توقفّنا في التواريخ الاغريقية وكتب البلدانيات الاسلامية على مصطلح العراق ضمن تشكيلات متباينة.

لقد وجدنا العراق يتشكّل ضمن نظام الشرق الذي كان وراء تأسيسه السلطان سليمان القانوني بتقسيم العراق الى ولاياته الكبرى الثلاث الموصل وبغداد والبصرة، وهي الاقاليم الادارية التي دامت حتى الاحتلال البريطاني، وخلال تلك الحقبة كانت مصالح العراق مشتركة بين الولايات الثلاث التي يربطها كل من دجلة والفرات..

ولقد تعّززت الروح العراقية وترّسخ مفهوم المواطنة عند العراقيين المتمدنين (الحضر) اي بمعنى: استقرارهم في المكان والفتهم له وتوطنهم فيه واكتسابهم الوانه وخصائص بيئته وكل جمالياته او قبائحه..

في حين ان البدو المتنقلين من مكان الى آخر، لم يكن في عرفهم اي استقرار في مكان معين، ولكنهم ايضا لهم الفتهم للفضاء المكاني الذي يدورون فيه مكتسبين خصائصه وسماته، بحيث لا يمكن فصلهم عن بيئتهم التي عاشوا فيها اجيالا بعد اجيال.

معنى العراق وطنا:

يبدو ان زمنا طويلا مضى والعراقيون لا يدركون معنى العراق! ولا اقصد بمعنى العراق لغة واصطلاحا، بل أقصده جغرافية وتاريخا. ولا اقصد جمهرة الناس العاديين الذين ليس لهم باع في البحث والتقّصي، ولكن أعني أولئك الذين يتخصصون في شؤون العراق من العراقيين، اذ يتوهمون كثيرا ما الذي يعنيه هذا العراق؟ ومن رسم حدود العراق؟

وهل رسمت في بدايات القرن العشرين من فراغ؟ وهل رسمها الانجليز كما جاء ذلك في محاضرة لأحد الاكاديميين العراقيين مؤخرا في ندوة مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية في ابوظبي؟

وهل استيقظ العراقيون هكذا فجأة، ليجدوا أنفسهم في بلاد جديدة صنعها الانجليز لهم كما يجري ذلك اليوم على السنة الكثير من العراقيين وهم اما جهلة غفلة او يتغافلون ويتجاهلون لتمرير ما يريدون على الناس.. والانسان عدو لما يجهله!

لقد ورثت بريطانيا العراق بشكله الحالي عن الاتراك العثمانيين الذين حكموا العراق اربعة قرون بولاياته الثلاث بحدودها التاريخية. وعليه، فان بريطانيا ورثت حدود الولايات وحدود العراق مع ايران بكل مشكلاتها التي تضمنتها 15 معاهدة عقدت على امتداد خمسة قرون.. مؤملا ان نخرج بما ينفع ذاكرتنا اليوم من معان اعتبرها ثمينة جدا.

. ولا يمكن التهاون معها ابدا مهما كان هناك من توّجهات مبيتّة لتقسيم وطن اسمه العراق وهذا لابد ان يدركه كل العالم في هذا الوجود.

مؤرخ عراقي