الثلاثاء:31. 01. 2006
د. محمد عابد الجابري
من المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام قرر تهجير أصحابه إلى الحبشة، في السنة الخامسة للنبوة، عندما تعاهدت قريش ضده وحاصرته هو وقرابته من بني هاشم في شِعب بالجبل في ملك عمه أبي طالبmiddot; وفي هذا الصدد تذكر مصادرنا أنه لما رأى عليه السلام وضعية الحصار المضروب عليه قال لأصحابه الذين اشتد عليهم أذى قريش: ''لو خرجتم إلى أرضِ الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ، حتى يجعلَ اللّهُ لكم فرجاً مما أنتم''middot;
وتورد مصادرنا نص الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي (=الملك بلغة الحبشة) يخبره فيها بأنه بعث إليه هؤلاء المهاجرين، وعلى رأسهم ابن عمه جعفر بن أبي طالب، وأوصاه بالاهتمام بهمmiddot; وتلك رسالة رددت مصادرنا القديمة نصها ثم اكتشفت في القرن الماضي كوثيقة تاريخية لا غبار عليهاmiddot; وهذا نصها:
''بسم الله الرحمن الرحيمmiddot; من محمد بن عبد الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشةmiddot; سِلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول، الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخِه، كما خلق آدم بيده ونفخهmiddot; وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اللهmiddot; وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ونفرا من المسلمين، فإذا جاءك فأقْرِهم (أحسن ضيافتهم)، ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبل نصحيmiddot; والسلام على من اتبع الهدى''middot; (هنالك صورة شمسية لوثيقة هذه الرسالة، كما اكتشفها المستشرق دmiddot;م دنلوب ونشرها عام middot;1940 أوردها كتاب محمد حميد الله ''مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة''middot; دار النفائس بيروت middot;1985 هذا ونشير إلى سقوط عبارة ''بعثت إليك'' من هذه الوثيقةmiddot;middot;middot; والنص الذي أثبتنا هو المتداول في جل المصادر)middot;
كما تورد مصادرنا رد النجاشي بالرسالة التالية:
''بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجرmiddot;
سلام عليك يا نبي الله ورحمته وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلامmiddot; أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثُفْرُوقا، إنه كما قلتmiddot; وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعت لابن عمك وأصحابه وأسلمت على يديه لله رب العالمين''middot; (يلي ذلك فقرة، وردت في النص الذي أوردته بعض المصادر، يخبر فيها أنه بعث إلى النبي ابنه أرها (كذا) وأنه مستعد للمجيء إليه هو نفسهmiddot;middot;middot;''، وهي فقرة من رسالة أخرى لاحقة بعثها النجاشي إلى النبي بمناسبة عودة المهاجرين إلى المدينة (كما سنبين في مقال قادم)middot; ولا يمكن أن تكون تلك الفقرة جزءا من الرسالة أعلاه لأن هذه أرسلها النجاشي إلى النبي وهو ما يزال في مكة محاصرا مضطهداmiddot; وعودة المهاجرين تمت والنبي في المدينةmiddot;
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ذكر ابن إسحاق أن رجال الدولة وقساوستها في الحبشة قالوا للنجاشي عندما أعلن إسلامه على وفد المهاجرين إليه: ''إنك قد فارقت دينَنا''، وخرجوا عليهmiddot; فلما قام لمحاربتهم ''أرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفناً، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإذا هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا''middot;
وإلى ذلك تذكر مصادرنا أن النجاشي بعث وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتألف من اثني عشر رجلاً من الحبشة، وسبعة قسيسين، وخمسة رهبان، ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشيmiddot; وتفيد روايات أخرى أنه لما نعي النجاشي إلى الرسول عليه السلام وهو بالمدينة قال لأصحابه: ''قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي''، فقال بعضهم لبعض: ''يأمرنا أن نصلي على علج من الحبشة''؟! فأنزل الله تعالى: ''وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ'' (آل عمران 199)middot;
ما يلفت النظر هنا هو أن العلاقة بين النبي عليه السلام والنجاشي تتحدد في هذه الرسالة من خلال الموقف من عيسى وأمه مريم! ولو لم يكن الرسول يعلم أن النجاشي لا يقول بألوهية عيسى أو بنوته للإله، بل يقول بما قال به أريوس وأتباعه، وغيرهم ممن أنكر التثليث، لما أكد على ذلك في رسالتهmiddot; إن هذا يعني أن النجاشي الذي كان يدين بالنصرانية كان أريوسيا حنيفيا، بينما بقي رجال الكنيسة في بلده من أصحاب التثليثmiddot;
والجدير بالذكر هنا أن العلاقة بين ملوك الحبشة وبين رجالات بني هاشم من جدود النبي ترجع إلى عهد قصي جدهم الأول الذي تولى الزعامة في مكة في القرن الخامس الميلادي، أي في الوقت الذي كانت فيه الحركة الأريوسية نشطة، يمتد نشاطها إلى إسبانيا غربا وأنها لم تنهزم في الجزيرة الأيبيرية إلا قبل ميلاد الرسول عليه السلام ببضعة عقود كما شرحنا في مقال سابقmiddot;
وكما هو معروف فقد كانت أهمية مكة، كمركز ديني ونقطة محورية في طرق التجارة العالمية، قد ازدادت منذ ذلك الوقت خصوصا عندما نشبت بين الفرس والبيزنطيين حروب دامية مما عرقل خط التجارة الشام/ العراق وحمل البيزنطيين على الاهتمام بطريق الشام/ اليمن المار بمكةmiddot; وكان الهاشميون من أبرز التجار الذين كانوا يرتادون هذه الطريقmiddot; وقد حصلوا من الروم على امتياز الإشراف عليه وحمايتهmiddot; ومعلوم أن القرآن قد سجل رحلات قريش التجارية بين الشام واليمن فقال تعالى: ''لإيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ (إلى اليمن) وَالصَّيْفِ (إلى الشام)، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (الكعبة)، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ (بالتجارة وعائدات الحج) وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (تحريم القتل والعدوان في المسجد الحرام ومحيطهmiddot;) (قريش 1 -4)middot; في إطار ''رحلة الشتاء والصيف'' هذه، يجب وضع ''حملة أبرهة'' -عامل ملك الحبشة في اليمن- على مكة! وهي الحملة التي جرت عام 570 ميلادية، سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمل فيها الفيل، وتوسط فيها عبد المطلب جد النبي، وقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابقmiddot;
لقد كان من الطبيعي، إذن، أن تنشأ، بفعل هذه العلاقات التجارية الدولية، علاقات عائلية بين الهاشميين وبين بعض القبائل اليمنيةmiddot; وهكذا كان أخوال النبي عليه السلام من اليمن، وكانت أم أيمن بركة -حاضنته بعد وفاة أمه آمنة بنت وهب- حبشية، وكان بلال حبشياmiddot;middot;middot; وحسب ما ترويه مصادرنا فإن ملك الحبشة قد تعرف على الدعوة المحمدية في وقت مبكر بواسطة رجاله باليمنmiddot;
لنضف أخيرا، وليس آخرا، أن النبي وأصحابه كانوا أميل إلى الروم ضدا على الفرس في الحرب التي نشبت بين هاتين الإمبراطوريتين في أوائل الدعوة المحمديةmiddot; وفي هذا الصدد تؤكد مصادرنا أنه عندما انتصر الفرس على الروم في الحرب التي فتح فيها كسرى أبرويز القسطنطينية، فرحت قريش بينما ساء ذلك المسلمينmiddot; ويقول المفسرون إنه في هذا الموضوع نزل قوله تعالى: ''ألمmiddot; غُلِبَتْ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأرْضِ (في جنوب الشام) وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ'' (سورة الروم 1-5)middot; ومعلوم أن سورة الروم من أواخر السور التي نزلت بمكةmiddot; وتفيد مصادرنا أن أبا بكر تحدى النصر الفارسي وقال إن الروم سيغلبون في الجولة القادمة، وتراهن مع بعض كبار قريش على ذلك ونال الرهان: فقد نشبت الحرب بين الفرس والروم مرة أخرى والتقى الجيشان فغلبت الروم الفرس وكان ذلك بعد نحو سبع سنين من الرهان (عاـم 627م)middot;













التعليقات