الأربعاء: 2006.10.04
عبدالعزيز بن عثمان بن صقر
على الرغم من أن بغداد وطهران لم تكشفا عن التفاصيل الدقيقة للمباحثات التي أجراها القادة من البلدين في إيران بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، فإن وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لم يترك مجالاً كبيراً للتساؤلات عندما قال: ldquo;إن رئيس الوزراء نوري المالكي قد رافقه خلال زيارته الأخيرة إلى طهران وفد متخصص في الشؤون الأمنية. لقد اصطحبوا ملفات، وكانت معهم معلومات وأدلة موثقة وطلبوا بصورة صريحة وضع حد للتدخلات الإيرانية في شؤون العراق الأمنيةrdquo;.
وكان وزراء الداخلية في الدول الست المجاورة للعراق بالإضافة إلى مصر والبحرين قد عقدوا ثلاثة اجتماعات منذ إسقاط نظام صدام حسين، حيث التقوا في إيران في ديسمبر/ كانون الأول ،2004 وتركيا في أغسطس/ آب ،2005 والمملكة العربية السعودية في سبتمبر/ أيلول ،2006 وركزت المباحثات التي جرت خلال هذه اللقاءات على اعتبار الوضع الأمني والسياسي في العراق ldquo;قضية أمن إقليميrdquo; تعني جميع دول المنطقة وبالذات الدول المجاورة للعراق. لذلك فإن المحور الأساسي لهذه الاجتماعات كان فرض ldquo;مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراقrdquo; إلى جانب تأكيد ضرورة الحفاظ على الاستقلال السياسي للعراق وسلامة أراضيه وحدوده الإقليمية ووحدته الوطنية. كما تمت مناقشة قضايا أخرى تتعلق بالتعاون المشترك في المجالات الأمنية التي تشمل تهريب السلع والأسلحة ومكافحة المخدرات ومنع تدفق الأموال الموجهة لتمويل الأنشطة الإرهابية. غير أن هذه الاجتماعات لم يتمخض عنها سوى القليل على صعيد الواقع الميداني على الأرض. وهذا الأمر يعود إلى طبيعة هذه الاجتماعات والصفة غير الملزمة لما يتمخض عنها من اتفاق أو تفاهمات، والتي تعتمد وبشكل أساسي على ldquo;مبدأ حسن النياتrdquo;، فالقرارات التي تم التوصل إليها خلال هذه الاجتماعات ليست سوى تعبير عن التضامن، لأنها غير ملزمة من الناحية القانونية ولا تتبعها آليات محددة لمتابعة تنفيذها من الناحية العملية.
فقد كان من المقرر أن تقوم دول الجوار، خلال اجتماعها الأخير، بالتوقيع على بروتوكول خاص ليحدد أسس تصرف دول الجوار تجاه الوضع في العراق، ولكن عملية التوقيع لم تنجزْ لأسباب تتعلق بضرورة أخذ موافقة الحكومات المعنية. مع العلم أنه حتى لو تمت عملية الموافقة على البروتوكول، فإن الحقيقة تبقى أن الإنجاز لا يعادل حجم وخطورة الأزمة العراقية وجدية وفداحة التدخلات الخارجية، لكون البروتوكول الذي كان من المفترض توقيعه يفتقر إلى الآلية التي تردع من يرغب في التدخل، وذلك بسبب افتقاده قوة الإلزام القانوني أو آلية عقوبات تفرَض على الأطراف التي تخالف تعهدات الوثيقة.
إن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق من قبل بعض الأطراف الإقليمية أمسى أحد المكونات الأساسية للأزمة العراقية. علاوة على ذلك، فهنالك اختلافات أيديولوجية وسياسية بين بعض جيران العراق والولايات المتحدة التي تعتبر الطرف الدولى الرئيسي المعني بضمان الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة. وتساعد هذه الاختلافات على تشجيع هذه الدول على إشعال أي أزمة من شأنها التأثير سلباً في الولايات المتحدة وإعاقة مهمتها في المنطقة. وبينما يمكن تصنيف إيران وسوريا بأنهما من الدول التي ينطبق عليها هذا القول، فإن تركيا هي الأخرى مدفوعة في سياستها تجاه العراق بمصالحها الذاتية وباعتبارات أيديولوجية أكثر من أي شيء آخر، حيث إن القضية الكردية التي تواجه تركيا على الصعيد الداخلي وعلاقاتها مع العراق جعلت أنقرة أقل فاعلية على صعيد العمل الدبلوماسي في محيطها المجاور مقارنة بجهودها في مجال السعي لاكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن خطر قيام القوات التركية بعبور الحدود العراقية لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني يُعتبر حقيقياً، وقد يخلق حالة من الفوضى ويوسع دائرة عدم الاستقرار في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الوضع قد يزداد حدة إذا ما تكثفت التحركات الكردية في اتجاه السعي لنيل استقلال الأكراد داخل العراق.
هنالك تاريخ طويل لسياسة التدخل التي تمارسها إيران في العراق. وتنبع أهداف طهران في التأثير بالتطورات الجارية في العراق من عدد من العوامل الاستراتيجية والثقافية والمصالح الدينية. وكان تاريخ علاقات البلدين قد اتسم بحالة من العداء والخصومة والتنافس المتواصل. وتشير الأدلة المبنية على أحداث وقعت مؤخراً إلى أن إيران قد قامت بتحريض ودعم ثلاثة أطراف رئيسية في الائتلاف العراقي الموحد. وعلى الرغم من وجود القوات الأمريكية التي تحتل العراق، فإن سياسات التدخل الإيرانية لها تأثير كبير في مجمل التطورات الجارية في العراق حالياً.
ومع أن إيران قد نفت ممارسة أي نفوذ أو تأثير سلبي لها في العراق، فإنها ظلت تواجه اتهامات من عدد من الدول بمساعدة تدفق الأشخاص والأموال وتهريب الأسلحة، إلى جانب التدخل في الحياة السياسية العراقية.
وكان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل قد ألقى كلمة أمام مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة في شهر سبتمبر/ أيلول ،2005 وقال فيها ldquo;إن المسؤولين الإيرانيين يتدخلون في الحكومات العراقية، ويذهبون إلى المناطق التي تؤمّنها القوات الأمريكية ويدفعون أموالاً وينصبون أناسهم، بل ينشئون قوات للشرطة الموالية لهم ويسلحون الميليشيات هناك، ويعززون وجودهم في المنطقة (جنوب العراق)rdquo;.
ومع التسليم بكل الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها وترتكبها الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها تجاه العراق، فإن واشنطن لم تخفِ قلقها تجاه الدور الإيراني المتصاعد في الشؤون العراقية، بل إن إخفاقها في التعامل مع المسألة العراقية هو أهم العوامل التي خلقت ظروفاً مواتية للتدخل الإيراني. ولذلك فقد صرح الرئيس الأمريكي جورج بوش في الحادي والثلاثين من أغسطس الماضي قائلاً: ldquo;إن النظام الإيراني يتدخل في شؤون العراق عن طريق رعاية الإرهابيين والمقاومة، وتوفير الدعم للميليشيات الخارجة على القانون وتوفير المكونات اللازمة لتصنيع المتفجراتrdquo;.
وكان علي الدباغ، المتحدث باسم الحكومة العراقية متفقاً مع وجهة النظر هذه عندما قال قبل أسابيع قليلة: ldquo;إننا نريد تمرير رسالة إلى القادة الإيرانيين بأن العراق بحاجة إلى علاقات جيدة مع الدول المجاورة له، من دون أي تدخل في شؤوننا الداخلية، ونحن نعلم أن العنف في العراق تغذيه وتموله جهات أخرى، بعضها دول وبعضها الآخر مجموعات معينة، ونحن نريد من الدول المجاورة لنا أن تساهم معنا في منع مثل هذه الأشياء من الدخول إلى العراقrdquo;.
ومع تدهور الوضع الفعلي على الأرض في العراق، حيث قُتل نحو أربعة وأربعين ألفاً من العراقيين منذ عام ،2003 بالإضافة إلى وجود أكثر من أربعة وثلاثين ألف معتقل قابعين في سجون قوات الاحتلال أو سجون الحكومة العراقية بتهم متعددة، أهمها تهمة ldquo;دعم أو ممارسة الأنشطة الإرهابيةrdquo; وبينما يتجه العراق نحو الانزلاق في أتون حرب أهلية محتملة، يتزايد في الوقت نفسه قلق الدول المجاورة لهذا البلد، الذي تمزقه الحرب، بشأن الانعكاسات المحتملة لهذه الأوضاع على أراضيها. وهناك شعور شبه عام في أوساط معظم الحكومات في المنطقة مفاده أن معالجة مسألة النفوذ الإيراني في العراق هى من المفاتيح الرئيسية للانتقال من الوضع الراهن إلى التحسن المنشود. وبناءً عليه، فإن أفضل طرح بناء يمكن لإيران أن تقدمه في هذه المرحلة ليس تقديم المساعدة الفاعلة، بل التوقف تماماً عن تقديم أي مساعدة من أي نوع. إن الحل الأنسب والأكثر فاعلية الذي يحتاج إليه العراق الآن هو إنهاء التدخل الإيراني في شؤونه على الفور من ناحية، إلى جانب وضع جدول زمني معقول لخروج القوات الأجنبية من العراق من ناحية ثانية، فضلاً عن بناء توافق مستقر بين القوى العراقية الرئيسية على قاعدة مصالحة وطنية حقيقية وشاملة من ناحية ثالثة. ولا شك في أن وضع حد للتدخل الإيراني في شؤون العراق سوف يخلق ظروفاً مواتية لتحقيق الهدفين الآخرين.
وفي مثل هذا السيناريو، ينبغي التفكير في الكيفية التي يمكن أن تعمل بها الأسرة الدولية على تغيير مسار الأحداث، وذلك بمحاولة استنباط آلية لإجبار إيران على الابتعاد عن التدخل في شؤون العراق الداخلية. ويمكن أن يأخذ هذا الجهد صيغة قرار دولي برعاية الأمم المتحدة. ومن المعروف أن الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تحظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ما لم يصدر بذلك تفويض صريح من مجلس الأمن الدولي. وتنص هذه الفقرة على أنه ldquo;ليس في هذا الميثاق ما يسوغ لrdquo;الأمم المتحدةrdquo; أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تخل بحكم هذا الميثاق..rdquo;.
وعلى الرغم من أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (2131) (20)، الذي صدر بعنوان ldquo;إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتهاrdquo; ليس ملزماً قانونياً، فإنه نص صراحة على أنه ldquo;لا يحق لأي دولة أو مجموعة من الدول أن تتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لأي سبب كان، في الشؤون الداخلية والخارجية للدول الأخرى. وتبعاً لذلك، يجب على الدول الامتناع في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة وجميع أشكال التدخل الأخرى، كما يجب إدانة التهديدات الموجهة إلى كيان الدولة وعناصر نظامها السياسي والاقتصادي وهويتها الثقافيةrdquo;.
وبينما لا توجد سوابق واضحة لقرارات من الأمم المتحدة تعالج حالات تتطابق مع سيناريو الوضع القائم بين إيران والعراق، فقد كان هناك عدد من القرارات التي تدين الاحتلال والاعتداء على الغير، مثل إدانة الاحتلال العراقي لدولة الكويت أو الاعتداء من قبل يوغسلافيا الاتحادية على جمهورية البوسنة واحتلالها. وفي حالة أفغانستان، كان مشروع القرار الذي دان تدخل الاتحاد السوفييتي السابق في هذا البلد وطالب بانسحاب القوات السوفييتية منه قد وُوجه بالاعتراض من قبل السوفييت الذين صوّتوا ضده بالفيتو. وعلى الرغم من ذلك، فقد صدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1980 وأكد أن ldquo;احترام سيادة الدول وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي يُعتبر مبدأ أساسياً من مبادئ ميثاق الأمم المتحدةrdquo;. كما دان القرار بشدة ldquo;التدخل العسكري في أفغانستانrdquo;، وناشد جميع الدول ldquo;الامتناع عن أي تدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة..rdquo;.
يمكن لأي قرار مقترح أن يستفيد من بعض عناصر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الصادر في عام ،2004 فبينما يدعو هذا القرار لبنان إلى بسط سيادته على كامل أراضيه ويدعو ldquo;القوى الأجنبيةrdquo; (في إشارة إلى سوريا) إلى الانسحاب من لبنان، فقد سعى أيضاً إلى وضع حد للتدخل في الشؤون السياسية الداخلية في لبنان. ومن المؤكد أن الشق الأخير من هذا القرار يُعتبر ملائماً وهو يصلح لمعالجة موضوع منع إيران من التدخل في شؤون العراق الداخلية.
لقد حان الوقت لكشف السرية التي كانت تغطي التدخلات التي كانت تقوم بها بعض الدول المجاورة في شؤون العراق الداخلية. وفي الوقت نفسه، ينبغي دعم الحكومة العراقية ومساعدتها بآلية محددة من قبل مجلس الأمن الدولي لإجبار إيران على تقديم جدول زمني منتظم يوضح بالتفصيل إجراءات فك الارتباط التي تتخذها في هذا الخصوص. ويبدو أنه مع اضمحلال الآمال في إمكانية التوصل إلى عراق قوي وموحد في خضم العنف والاضطرابات الطائفية التي تزداد سوءاً كل يوم، فإن الخطة العملية الوحيدة التي يُرجح أن تضغط على إيران لكي تخفف من تصعيدها وتكف عن تدخلاتها في شؤون العراق هي إصدار قرار من الأمم المتحدة في الوقت المناسب وتنفيذه بصورة فاعلة.
لذا، فإنه من دون قيام مجلس الأمن الدولي بتبني قرار حازم وصريح، ربما يستند إلى الفصل السابع من ميثاق المنظمة الذي يضمن عنصر الإلزام في التنفيذ، لحظر التدخل في الشؤون الداخلية للعراق وإجبار الدول المجاورة على احترام سيادة ووحدة أراضي الدولة، فإن جهود الدول الإقليمية الحريصة على مستقبل العراق ستذهب سدى أمام عجز اجتماعات دول الجوار الجغرافي عن فرض ldquo;مبدأ عدم التدخلrdquo;، فالنيات الحسنة لا يبدو لها مكان أمام بريق المصالح الذاتية لبعض الأطراف الإقليمية التي تقول ما لا تعمل وتعد بما لا تنفذ. ومثل هذا القرار يمكن أن يكون له مصداقية أكبر في حال اقترانه بمبادرة أمريكية تطرح جدولاً زمنياً محدداً لانسحاب القوات الأجنبية من العراق في ظل تعزيز عملية بناء الجيش والشرطة العراقيين، ومواصلة جهود بناء التوافق الداخلي في العراق، فضلاً عن تفعيل عملية إعادة الإعمار. وفي هذا السياق، فإن وقف التدخل الإيراني في الشؤون العراقية هو شرط ضروري لمعالجة الأزمة العراقية، لكنه ليس كافياً.
التعليقات