الجمعة: 2006.10.06



د. رغيد الصلح

ينهمك الزعماء اللبنانيون اليوم في الاسهام بسجال حاد يتمحور بصورة خاصة حول الاستراتيجية التي ينبغي على لبنان اتباعها تجاه النزاع العربي - ldquo;الإسرائيليrdquo;. ويثير هذا السجال القلق والمخاوف بين قسم كبير من اللبنانيين، لا لأنه تعبير عن تباعد في الآراء بين الزعماء والقادة اللبنانيين، فالتباين والتباعد في الآراء امر مألوف في الانظمة الديمقراطية، ولكن ما يثير القلق بين اللبنانيين هو ان السجال ينحو منحى التراشق السياسي والاعلامي الذي يحوّل التباين والتباعد إلى شقاق، وربما احتراب بالسلاح. أي انه سجال يختلف اختلافا نوعيا عن الجدل الفكري والسياسي، الذي ينمي الوعي العام ويؤسس لتفاهم وطني قائم على احترام التنوع في الاجتهادات وعلى التعدد في وجهات النظر. هذا التراشق الاعلامي والسياسي لا يثير مخاوف اللبنانيين فحسب، بل انه يثير ايضا المخاوف في الدول والمجتمعات العربية الأخرى، حيث ان ما يجري في لبنان يمكن ان يؤثر تأثيرا مباشرا وسريعا في الأوضاع العربية الاخرى. فاذا نجح اللبنانيون في التوصل إلى تجديد الشراكة الوطنية وارسائها على قواعد ديمقراطية متينة، لتمكنوا من تعزيز النزوع الوطني والديمقراطي في المنطقة، اما اذا تغلبت دعوات التعصب والاحتراب المذهبي والديني والسياسي على مساعي العقل والاعتدال، لترددت اصداء هذه الدعوات في العديد من المجتمعات العربية.

من أجل نقل مسألة على هذا المستوى من الاهمية من حيز المشادات والمناكفات إلى حيز الحوار الجاد، الذي يصلح أساسا لتجديد الشراكة الوطنية، فانه لا بد من النظر إلى هذه المسألة من جميع جوانبها ومراحلها. ومن يريد ان يقدم فهما شاملا لهذه المسألة لا يستطيع ان يمهد لذلك، أو ان يخلط هذا المسعى بفهم مبتسر ومجزوء للحرب ldquo;الإسرائيليةrdquo; الاخيرة على لبنان، وان يعزلها عن مسارها التاريخي والوطني.

تمخضت هذه السجالات حتى هذا التاريخ، عن منظورين رئيسيين لفهم الحرب الاخيرة: الاول، يضع هذه الحرب في سياق -صراعات الآخرين على ارض لبنان- والمقصود هنا، هو الصراعات الدولية والعربية والاسلامية والاقليمية التي تعتبر لبنان -ساحة- لتصفية حساباتها. ولقد صورت الحرب هنا وكأنها استجابة لرغبات ايرانية أو سورية، وانها امتداد للصراع العربي - ldquo;الإسرائيليrdquo; وتعبير عن رغبة عربية - اسلامية، أو حتى أممية في محاربة ldquo;إسرائيلrdquo; حتى آخر مقاتل لبناني. اما المنظور الثاني، فهو يركز على الاسباب المباشرة للحرب مثل استرداد مزارع شبعا واجبار ldquo;إسرائيلrdquo; على تحرير الاسرى اللبنانيين وتسليم خرائط الالغام التي زرعتها في الاراضي اللبنانية، وعلى وقف انتهاكاتها المستمرة للمياه والاجواء اللبنانية.

هذا المنظوران لا يلخصان مبررات الصراع اللبناني - ldquo;الإسرائيليrdquo;، انهما يمسان جوانب منه من دون الاخرى. بل ان المنظورين، رغم انهما يعبران عن وجهات نظر متباعدة في الحرب ومسبباتها، ونظرات مختلفة إلى الموقف من النزاع العربي - ldquo;الإسرائيليrdquo;، يبدوان وكأنهما متفقين في الجوهر. ذلك انه لن يكون صعبا تصوير قضايا شبعا والأسرى والألغام والانتهاكات، اذا طرحت بمعزل عن الجوانب المتعددة للنزاع اللبناني - ldquo;الإسرائيليrdquo;، وكأنها تداعيات ونتائج لحروب الآخرين على ارض لبنان.

الخلل الرئيسي في هذا المنظور انه يغفل محددا مهما ورئيسيا من محددات العلاقات ldquo;الإسرائيليةrdquo; - اللبنانية. انه موقف ldquo;إسرائيلrdquo; والحركة الصهيونية من الجوار عموماً، ومن لبنان تحديدا. فهل قبلت ldquo;إسرائيلrdquo;، ومنذ تأسيسها، -بالوضع الراهن- في المنطقة، علماً بأن الوضع الراهن كان من صنع الدول والقوى الكبرى التي انجبت ldquo;إسرائيلrdquo; وبسطت حمايتها عليها وامدتها بكل وسائل القوة والتفوق على العرب؟ وهل تقبل ldquo;إسرائيلrdquo; بان يمارس لبنان سيادته بصورة غير منقوصة على ارضه وثرواتها الطبيعية؟ للإجابة عن هذه التساؤلات فان المشتركين في السجالات يستطيعون الرجوع إلى خبرات فكرية لبنانية تاريخية والى تجارب عملية حديثة ومتجددة.

من بين الذين سعوا إلى الاجابة عن هذه التساؤلات في الماضي وطنيون لبنانيون لم يكونوا في اي يوم من الايام مع تغليب -مصالح الآخرين على المصالح اللبنانية- فشارل مالك، وصف الحركة الصهيونية، عندما كان وزيرا مفوضا للبنان في الولايات المتحدة عام 1949 ، بانها ldquo;...بطبيعة حالها، حركة ديناميكية وتوسعيةrdquo; وان فلسطين لن تكفي حاجات ldquo;الإسرائيليينrdquo; ولن تشبع نهم قادتهم، وان ldquo;الإسرائيليينrdquo; سوف يسعون بالتالي للسيطرة على العالم العربي وعلى لبنان. وتوصل المفكر ورجل الاعمال اللبناني ميشال شيحا إلى استنتاجات مشابهة اذ حذر من ldquo;إسرائيلrdquo; التي تشكل مجاورتها ldquo;خطرا لا يستهان به...rdquo; والتي ستحاول ان تمارس سيطرة اقتصادية ومن ثم شاملة على لبنان، ما ldquo;يشدد الخناق عليه ويحد من وسائل عيشهrdquo;.

بعيدا عن التوقعات والتحليل، فان تاريخ العلاقات ldquo;الإسرائيليةrdquo; - اللبنانية يوفر لنا مادة غنية لتقييم الموقف ldquo;الإسرائيليrdquo; من سيادة لبنان ومن حقوقه الطبيعية. وفي هذا السياق، فان قضية الموقف ldquo;الإسرائيليrdquo; من مياه لبنان تقدم دليلا ملموسا وقويا على ان ldquo;إسرائيلrdquo; تعتبر ان حاجات ldquo;الإسرائيليينrdquo; فحسب، وليس القوانين الدولية والمبادئ التي قام عليها نظام وستفاليا، هي التي تحدد اسس العلاقة مع الجوار اللبناني والعربي. فاذا ما احتاج ldquo;الإسرائيليونrdquo; إلى مياه لبنان واذا اقنعوا الادارة الامريكية وبعض الحكومات الاوروبية- وهم على استعداد دائم للاقتناع بما تقوله ldquo;إسرائيلrdquo;- انه من دون هذه المياه سوف يتعرض امن ldquo;إسرائيلrdquo; وبقاؤها إلى الخطر، بات على اللبنانيين ان يعتبروا -مشاركة- ldquo;إسرائيلrdquo; في مياههم حقا طبيعيا لها، وواجبا يقبلون به من دون تردد.

وحتى لا يتصور احد ان ما يقال هنا هو بمثابة المغالاة، فانه يمكن العودة إلى ردة الفعل ldquo;الإسرائيليةrdquo; على قرار اللبنانيين الذي اتخذوه خلال عام 2002 باستثمار جزء يسير من مياه الوزاني الذي ينبع من اراضيهم ويمر فيها. وعندما باشر اللبنانيون بتنفيذ هذا القرار وذلك بتركيب مضخات لاستثمار المياه في تأمين ري الاراضي الزراعية ومياه الشرب للقرى القريبة من النهر، ابلغ آرييل شارون السفراء الاجانب في ldquo;إسرائيلrdquo; ان عمل اللبنانيين هو بمثابة ldquo;اعلان حربrdquo; على ldquo;إسرائيلrdquo;! وردا على -العدوان اللبناني- أبلغت الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; الحكومة اللبنانية بانها سوف تقصف المضخات. ولم ينفذ ldquo;الإسرائيليونrdquo; انذارهم آنذاك ولكنهم نفذوه خلال الحرب الاخيرة اذ دمروا المضخات والعديد من المنشآت التي اقامها لبنان من اجل الاستفادة من مياهه.

موقف ldquo;إسرائيلrdquo; من مياه لبنان ليس موجها ضد طائفة أو فريق أو حزب من الطوائف أو الافرقاء أو الاحزاب اللبنانية. ان مياه لبنان تفيد كافة اللبنانيين. فالمنشآت التي اقيمت على نهر الليطاني وحده توفر للبنانيين، من دون تمييز في الدين أو في الانتماء السياسي، ما يفوق ثلث استهلاكهم من الكهرباء. ومياه الانهار اللبنانية، اذا احسن استغلالها والاستفادة منها، جديرة بان توفر للبنان كله قاعدة متينة من قواعد التنمية الصناعية والزراعية والسياحية، وان توفر للبنانيين، من دون استثناء، مياه الشرب العذبة. بالمقابل فان مشاريع ldquo;إسرائيلrdquo;، المدعومة بآلة الحرب والعدوان، من ثروات لبنان الطبيعية ومنها المياه، تدل بوضوح على انها لا تقيم وزنا لمصالح لبنان وحقوقه الوطنية، وعلى انه اذا اراد القادة اللبنانيون حماية هذه الثروات فانهم لن يتمكنوا من تحقيق هذا الغاية الا عبر التفاهم على استراتيجية دفاعية تعبئ كافة الطاقات الوطنية من دون استثناء. الطريق إلى رسم هذه الاستراتيجيه هو الحوار البناء والجاد وليس حفلات التشاتم والتهاتر.