رضوان السيد


أتت كوندوليزا رايس إلى المنطقة وفي جُعبتها كل النوايا الطيبة! لا تتحدث الآن عن الديمقراطية، وعن تغيير أنظمة الحكم، بل تتحدث عن الاعتدال، وهي تعني بالاعتدال: القَبول بالتسوية السلمية للقضية الفلسطينية. لكنّ المسالكَ ليست جاهزةً ولا آمنة. فالإسرائيليون -وبعد حرب quot;حزب اللهquot; الناجحة عليهم- ما عادوا مستعدين للقيام بأي شيء؛ بما في ذلك quot;الانطواءquot; الذي تحدثوا عنه في الضفة الغربية. وقوى quot;الاعتدالquot; المشاركة في الحكومة الإسرائيلية (ومنها حزب العمل) ترى أنّ الحديث مع سوريا أسهل من الحديث مع الفلسطينيين الذين ما عادوا يملكون صوتاً واحداً ولا سلطةً موحَّدة. أما الفلسطينيون من جهتهم فليسـوا متفقين على شيء. ويبدو أن جماعة quot;أبو مازنquot; الآن مع quot;أوسلوquot;.

لكنْ لنتذكر أنّ عرفات وquot;أبو مازنquot; قالا مراراً في السنوات الأخيرة إنّ الإسرائيليين (وشارون على الخصوص) هم الذي خانوا quot;أوسلوquot;. وفوز quot;حماسquot; من أسبابه ولاشكّ فشل التسوية التي دخلت فيها منظمة التحرير. لكنْ على أي حال، الذي يبدو الآن أنّ السلطة الفلسطينية بقيادة quot;أبو مازنquot; تقول بـquot;أوسلوquot; وبالاتفاقيات الأُخرى (التي لا ندري ما رأْيُ أولمرت وحكومته فيها الآن!)؛ في حين ترفُضُ quot;حماسquot; كلَّ ما يعني الاعتراف بإسرائيل مباشرةً أو مُداورة. وكانت قد وافقت على ما سُمّي بوثيقة الأسرى؛ ثم تراجعت عنها. وفي الأيام الأخيرة تفاقم الاشتباك بين قواتها ومسلَّحي السلطة المُضربين للمطالبة بمرتباتهم. ولنتذكَّر أنّ الأزمة الحالية بدأت قبل خمسة أشهر عندما خطفت عناصر فلسطينية مسلَّحة (بينها أفراد من quot;حماسquot;) جندياً إسرائيلياً وقتلت اثنين. ومنذ ذلك الحين تُغير القوات الإسرائيليةُ يومياً على نواحٍ من غزة، وتقتل وتدمّر وتطالب بإطلاق سراح الأسير.

وقد جرى التوصل إلى عدة اتفاقيات لمبادلة الأسير بمئات الفلسطينيين الأسرى، بوساطةٍ مصرية. لكنّ قيادة quot;حماسquot; بسوريا كانت تفشّل ذلك كلَّ مرةٍ في آخِر لحظة. إنّ الخلافات بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot; يومية. وهي تخلّفُ دائماً جرحى أو تخريباً. وآخِرُ ما جرى مقتل عشرة في الاشتباكات، وتوقف المفاوضات على حكومة الوحدة الوطنية، وقول quot;حماسquot; إنها لا تستطيع الاعتراف بإسرائيل بل الموافقة على هدنة لمدة عشر سنواتٍ معها

(مثل هدنة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش). وهكذا فلو فرضْنا أنّ الإسرائيليين مستعدون الآن للدخول في مفاوضات الحدّ الأدنى، أي quot;خريطة الطريقquot;؛ فإنه ليس هناك طرف فلسطيني واحد، يستطيع الوصول إلى اتفاقٍ وتنفيذه. فإذا كان باراك وشارون كاذبَين في عدم وجود شريك فلسطيني للتفاوض (حتى عام 2004)، فإنّ ذلك صار واقعاً الآن؛ بل ومنذ الانتخابات التشريعية الفلسطينية أواخر عام 2005.

بيد أنّ هذا الموقف المتضعضع لدى الفلسطينيين والإسرائيليين الآن؛ لا ينبغي أن يُلْهيَنَا عن دَور الولايات المتحدة وسياساتها في السنوات الأخيرة في الوصول لهذا الواقع. فطوال أكثر من خمس سنواتٍ رفعت الولايات المتحدة شعارين للكفاح ضدهما: الإرهاب، والدول الفاشلة. شملت بالحرب على الإرهاب كلَّ التنظيمات الإسلامية تقريباً؛ وبالدول الفاشلة أو التي تُعينُ الإرهاب: العراق وسوريا وإيران. وها نحن بعد خمس سنواتٍ عندنا عراقٌ مدمَّرٌ تدور فيه حربٌ أهلية، وعندنا نظامٌ سوريٌّ مستتبعٌ لإيران، ونظامٌ لبنانيٌّ مهدّدٌ بالتدخل السوري، وبتوجيهات إيران لـquot;حزب اللهquot; -فضلاً عن علاقة quot;حماسquot; بإيران وسوريا والتي أفشلت كلَّ محاولات التوافُق مع quot;فتحquot; حتى الآن. صارعت الولايات المتحدة الإرهاب فازداد عنفواناً وشراسة. وأرادت إحلال أنظمة ديمقراطية محلَّ الفاشلة، فنشرت إيران في هجومها الاستراتيجي المضادّ الاضطراب في كل مكانٍ بالمشرق العربي.

ولذلك تأتي كوندوليزا رايس إلى المنطقة والوضع ملتهبٌ بفلسطين ولبنان. وهناك صراعٌ هائلٌ بين الولايات المتحدة وإيران ترتبت عليه اصطفافاتٌ بالمنطقة أيضاً. اجتمعت رايس بوزراء خارجية الدول الخليجية، بالإضافة إلى الوزيرين المصري والأردني؛ فقيل فوراً إنه تكوينٌ لتحالُفٍ جديد في مواجهة إيران وسوريا والحركات الأُصولية.

سمّت كوندوليزا رايس الدول التي اجتمعت بوزراء خارجيتها دُوَل الاعتدال. وهي تخلّتْ بذلك عن أطروحة الدول الديكتاتورية والفاشلة التي عملت تحت يافطتها لخمس سنوات، وتحدثت عن التغيير الديمقراطي فيها. ودولُ الاعتدال هذه تتقدم بتؤدة في المجال الديمقراطي، ولا تقول بالعنف في العلاقات البينية ولا في الداخل. إنما نقطةُ الضعف في نظر الخصوم هي قولُ تلك الأنظمة بالتسوية، التي داستها إسرائيل والولايات المتحدة قبل سنوات. ويرى الإيرانيون والسوريون والأصوليون أنه لابد من العودة لخيار القوة والمقاومة للحصول على الحقّ الفلسطيني، وتحرير الأرض السورية واللبنانية. ويدعم الإيرانيون والسوريون quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot;، ويتصارعون مع الأميركيين عبر هذين التنظيمين. وقد شنّ quot;حزب اللهquot; حرباً على إسرائيل حقق فيها نجاحات، بينما ما تزال quot;حماسquot; صامدة. والمنتظر أن يزداد التوتُّر بالمنطقة، ويزداد هياج quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; والنظام السوري وشيعة العراق، مع اتجاه المجتمع الدولي لفرض عقوباتٍ على إيران خلال أسابيع قليلة.

ثم إنه ليس من المنتظر أن يضغط الرئيس بوش على الحكومة الإسرائيلية الضعيفة قبل انتخابات الكونغرس النصفية بعد شهرٍ ونصف. ولذلك فقد يبدو الآن أنَّ الساحة مفتوحةٌ للمتطرفين والراديكاليين ممن تستخدمهم إيران وسوريا، ممن يعتقدون أنَّ الظرف مناسبٌ لهم، وسط الموجة الجماهيرية العربية التي تدعم الحرب على إسرائيل. إنما المشكلة أنّ الأصولية هي خَطَرٌ على الاستقرار في البلدان العربية، أكثر مما هيquot; حركة تحرير في وجه العدو الصهيونيquot;. وليس من أهداف إيران تحرير فلسطين طبعاً؛ لكنها مصرةٌ على إيذاء الأميركيين بهذه الطريقة، ما دام الاتفاق بينهم لم يتمّ حتى الآن. أما النظام السوريُّ فعنده مصالح في لبنان يعتقد أنها تجوهلت، وعنده الخوفُ من المحكمة الدولية باغتيال الرئيس الحريري، وعنده أنصارٌ كُثُرٌ سقطوا في الانتخابات النيابية بعد خروج العسكر السوري، وهو يريد إعادتهم بالقوة، وبسيف السيد حسن نصرالله، إلى الحكومة والسلطة. ولا طريق لذلك كلِّه لدى الإيرانيين والسوريين إلاّ الضغط من خلال القوة العسكرية لـquot;حزب اللهquot;، والتمرد السياسي والعسكري لـquot;حماسquot;؛ فضلاً عمّا يمكن للسوريين أن يقوموا به عبر أنصارهم من نشرٍ للاضطراب والفوضى.

ما معنى تحرك كوندوليزا رايس إذن وما مآلاتُه؟ رايس قالت إنها آتيةٌ لبحث إمكان عودة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولدعم الاعتدال والحكومات المعتدلة بالمنطقة ومن ضمنهم محمود عباس وفؤاد السنيورة. الهدفُ الأول سهلٌ وصعبٌ في الوقت نفسه. سهولتُهُ آتيةٌ من إمكان لقاء أولمرت بمحمود عباس، فلا تحفُّظَ بين الرجلين على ذلك. لكنّ عباس ليس السلطة التنفيذية بل حكومة quot;حماسquot;. فلو أنه اجتمع مع الإسرائيليين وتوصل لبعض الاتفاقات، فليس هناك ضمانٌ أنّ تنفّذ حكومة quot;حماسquot; ما يجري الاتفاق عليه إنْ لجهة تبادُل الأسرى، أو لجهة العودة لخريطة الطريق. وليس من المنتظر أن تنحلَّ مشكلة حكومة الوحدة الوطنية قريباً لأنّ إيران وسوريا تستخدمان ذلك ورقةً للمُساومة من طريق السيطرة على خالد مشعل وقيادة الخارج لـquot;حماسquot;، وبعض الموارد المادية للحركة.

أما الهدفُ الثاني لزيارة وزيرة الخارجية الأميركية: دعم الاعتدال والحكومات المعتدلة؛ فإنّ هناك طريقةً يبدو أنّ رايس ستتبعها وذلك بإقناع العرب والأوروبيين بتسهيل أوضاع الفلسطينيين من طريق تقديم الدعم بواسطة محمود عباس أو الرئاسة الفلسطينية وليس وزارة المالية في الحكومة quot;الحماسيةquot;. وهذا يُريحُ الجمهور الفلسطيني بعض الشيء، لكنه لا يحلُّ مسألة تمثيل الفلسطينيين في التفاوُض. والدعم المادي مفيد للرئيس السنيورة، وقد بدأ العرب والأوروبيون بذلك. لكنّ ذلك لا يحولُ دون تصاعد التوتُّر السياسي الذي يقودُهُ quot;حزب اللهquot; وجماعة عون وأنصار سوريا، والذي لا ندري مدى ما يمكن أن يصلَ إليه.

لقد تأخر الأميركيون كثيراً، وعندما أتَوا وجدوا أنّ إيران قد احتلّت مساحةً معتبرةً من الفراغ الذي صنعتْهُ حربُهُم على الإرهاب. أما العرب فيندفعون لمساعدة اللبنانيين والفلسطينيين الآن فتواجههم التربصات السورية، والهيجان الأصولي، والابتزاز الإيراني. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.