الأربعاء: 2006.10.11
الحقيقة أن مقتل بوليتكوفسكايا يشكل نذير شؤم على نحو خاص، وذلك إذا ما وضعنا في اعتبارنا أنها كانت من بين أشد المنتقدين للرئيس الروسي. وفي مقالاتها التي كانت تنشر في إحدى الصحف المستقلة القليلة المتبقية في روسيا، وهي صحيفة نوفايا جازيتا، وفي كتابيها quot;روسيا تحت حكم بوتن: الحياة في ظل ديمقراطية متهاويةquot;.
نـيـنـا خروشتشيفا
لقد آن الأوان لإنهاء ذلك الوهم الذي يصور لبعض الناس أن quot;دكتاتورية القانونquot; التي ابتدعها فلاديمير بوتن قد نجحت في جعل روسيا ما بعد الشيوعية أقل تمرداً وخروجاً على القانون. كان مقتل أنـّا بوليتكوفسكايا، وهي واحدة من أشجع وأفضل الصحافيين، والمرأة التي بلغت بها الجرأة حداً جعلها تفضح جرائم القتل الوحشية التي ارتكبتها القوات الروسية في الشيشان، بمثابة الدليل الأخير على أن الرئيس بوتن لم يقدم شيئاً لروسيا سوى نسخة معدلة من الدكتاتورية ونفس ازدرائها المعتاد للقانون.
لقد جاء هذا الإدراك في الوقت المناسب بالنسبة للعالم أجمع، وبصورة خاصة في أوروبا. ذلك أن وزارة الخارجية الألمانية تستعد الآن لانتهاج سياسة خاصة بالعلاقات الروسية الألمانية تتسم بعدم الالتفات إلى تمرد بوتن على القانون، باعتبار أن ذلك يصب في المصلحة الوطنية لألمانيا، وهي الدولة الأكثر قوة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. إلا أن عدم المبالاة على هذا النحو يتحول إلى استرضاء حين يشجع بوتن على الاستمرار في اتباع أساليبه غير المشروعة في الساحات الدولية، كما أثبتت لنا محاولاته الحالية لخنق جورجيا اقتصادياً.
لقد استحضر مقتل بوليتكوفسكايا مشاعر قديمة مخيفة: فقد أصبح من المعتاد الآن في روسيا تحت زعامة بوتن أن يختفي الناس ببساطة كما كان يحدث في أيام مجد هيئة الاستخبارات والأمن القومي السوفييتية KGB. إن جريمة قتل بوليتكوفسكايا تُـعَـد الحالة الثالثة التي تشوبها شبهة سياسية في غضون ثلاثة أسابيع. فقد قُـتِل إنفير زيجانشين كبير مهندسي شركة BP Russia رمياً بالرصاص في إيركوتسك في الثلاثين من أيلول (سبتمبر). كما اغتيل أندريه كوزلوف نائب محافظ البنك المركزي الروسي، الذي كان يتولى قيادة الحملة ضد الاحتيال المالي، وذلك في الرابع عشر من أيلول (سبتمبر).
إن تولي المدعي العام الروسي الجنرال يوري تشايكا التحقيق في قضية مقتل بوليتوكوفسكايا، كما فعل مع قضية مقتل كوزلوف، لا يبشر في حد ذاته بأي خير أو أمل، وذلك على عكس المنتظر من مثل هذه المشاركة الرفيعة المستوى في أي نظام ديمقراطي حقيقي. والواقع أن مشاركة أعلى المستويات في الحكومة الروسية بهذه الصورة يكاد يكون بمثابة الضمان لعدم العثور على القتلة على الإطلاق.
الحقيقة أن مقتل بوليتكوفسكايا يشكل نذير شؤم على نحو خاص، وذلك إذا ما وضعنا في اعتبارنا أنها كانت من بين أشد المنتقدين للرئيس الروسي. وفي مقالاتها التي كانت تنشر في إحدى الصحف المستقلة القليلة المتبقية في روسيا، وهي صحيفة نوفايا جازيتا، وفي كتابيها quot;روسيا تحت حكم بوتن: الحياة في ظل ديمقراطية متهاويةquot;، وquot;الحرب القذرة: مراسل روسي في الشيشانquot;، كتبت بوليتكوفسكايا عن تبدد الحريات الذي بات يشكل السمة المميزة لرئاسة بوتن. وكما تبين من نفي وإقصاء الزعيمين الإعلاميين السابقين بوريس بيريزوفسكي وفلاديمير جوسينكي، وسجن قطب النفط ميخائيل خودوركوفسكي، فإن مصير أعداء بوتن لا يخرج عن ثلاثة احتمالات: النفي، أو السجن، أو القبر.
أنا لا أتهم حكومة بوتن بالتآمر لقتل بوليتكوفسكايا. ذلك أنها باعتبارها صحافية قادت العديد من حملات التحقيق في الفساد، لابد وأن تكون قد أثارت غضب العديد من الناس إلى جانب بوتن، وأبرزهم رئيس وزراء الشيشان الحالي رامزان قديروف الذي اتهمته بانتهاج سياسة الخطف وطلب الفدية. ولكن حتى إذا ما افترضنا أن مساعدي بوتن لا يد لهم في مقتل بوليتكوفسكايا رمياً بالرصاص أثناء استقلالها للمصعد الخاص بالبناية التي تسكن فيها في وسط موسكو، فقد أدى احتقاره للقانون إلى خلق المناخ الذي أصبح فيه قتل الناس على هذا النحو أمراً وارداً. وكما قتل كبير الأساقفة توماس بيكيت في كاتدرائية كانتربري منذ عدة قرون، فقد ارتكبت هذه الجريمة الأخيرة من منطلق قناعة واضحة من القاتل بأن ذلك لابد أن ينال غبطة الملك.
ونظراً لما كانت بوليتكوفسكايا تمثله ـ مسؤولية الصحافة الديمقراطية عن مساءلة الكريملين ومراجعة سياساته ـ فقد كان لزاماً على الحكومة أن تحرص على سلامتها. لقد فقدت روسيا في ظل حكم بوتن اثني عشر صحافياً رائداً قتلوا جميعاً خلال الأعوام الستة الماضية. ولم تتوصل السلطات إلى حل لأي من تلك الجرائم، وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت quot;دكتاتورية القانونquot; التي ابتدعها بوتن أكثر من مجرد استراتيجية للعلاقات العامة.
لقد كانت فترة السنوات الست التي انقضت منذ تولى فلاديمير بوتن السلطة في الكرملين حافلة بالإشارات والعلامات المتضاربة. فمن ناحية، يرى العالم زعيماً شاباً متعلماً يتعهد بتحديث روسيا، وبصورة خاصة فيما يتصل بالارتقاء بحكم القانون والممارسات القضائية إلى المعايير الدولية. ومن ناحية أخرى، نرى الرئيس وهو يراقب في صمت تقاعس زملائه السابقين في هيئة الأمن الفيدرالي FSB (هيئة الاستخبارات والأمن القومي KGB سابقاً) عن توفير الأمن لهؤلاء الذين قتلوا، بل وإطلاقهم لسلسلة من قضايا التجسس ضد صحافيين، وعلماء، وناشطين في مجال حماية البيئة. ومن بين هؤلاء quot;الجواسيس الجددquot; كان الصحافي جيورجي باسكو، وخبير مراقبة الأسلحة إيجور سوتياجين، والدبلوماسي فالنتين مويسيفي، وعالم الفيزياء فالنتين دانيلوف، وآخرون.
يبدو، وكأن التأثير الحضاري المفترض للشراكة مع الغرب ـ تولي رئاسة قمة مجموعة الثماني في سانت بطرسبرج، على سبيل المثال، قد ضاع بين أفراد عشيرة الكرملين تحت زعامة بوتن. ومرة أخرى لم يسفر التعرض للقيم الغربية إلا عن إنشاء قرية زائفة أخرى على غرار quot;قرية بوتيمكنquot;؛ حيث ترى في الواجهة احترام القانون والمؤسسات الديمقراطية، لكنك خلف ذلك الستار السطحي لن تجد سوى نفس الحكم الاستبدادي الأعمى.
إن الخطر الذي بات العالم عرضة له الآن يتلخص في تصدير ازدراء بوتن للقانون والشرعية إلى الخارج. ففي بلدان مجاورة لروسيا أصبحنا نرى شكلاً من أشكال الدبلوماسية الإجرامية يضرب بجذوره في الأعماق. ولنتذكر محاولات بوتن للتلاعب في الانتخابات الرئاسية السابقة في أوكرانيا، والاتهامات الجنائية المتكررة ضد زعيمة المعارضة يوليا تيموشينكو. ولننظر إلى الأقاليم الانفصالية في مولدوفا وجورجيا، التي لم يصبح لها وجود إلا بسبب دعم الكرملين لها. ولنشاهد كيف يسعى الكرملين إلى ابتزاز جيرانه عن طريق تهديد إمداداتهم من الطاقة.
كل رجل شرطة يدرك تمام الإدراك أن المجرمين يزدادون جرأة ووقاحة إذا ما وجدوا تجاهلاً لسلوكهم الإجرامي. لقد بات لزاماً على العالم الآن أن يدرك حقيقة فلاديمير بوتن: إنه الرجل الذي أخذ على عاتقه أن يعيد روسيا إلى عهود الظلام. ويتعين على العالم أن يتأمل ملياً في الحكمة اللاتينية القديمة التي تقول: quot;السكوت علامة الرضاquot;، وأن يسأل نفسه ما إذا كان من الحكمة أن يوافق في صمت على قيام إمبراطورية الطاقة العظمى التي لا يحكمها القانون والتي يسعى بوتن إلى تشييدها.
نـيـنـا خروشتشيفا أستاذة العلاقات الدولية في جامعة نيو سكول،
ومن المنتظر أن يصدر قريباً كتاب من تأليفها عن فلاديمير نابوكوف.
www.project-syndicate.org
التعليقات