طلال سلمان


هي لحظة فرح أن نسمع خبر إطلاق سراح ميشال كيلو، وإن كنا ما زلنا لا نعرف على وجه الدقة لماذا اعتقل هذا المفكر السياسي والكاتب السوري الذي لا يملك من lt;أدوات الحربgt; غير وطنيته وغير بعض الأمنيات الغوالي التي تبشّر بخير الناس وغير اجتهاده في خدمة بلاده بما يحميها ويحصنها في وجه النزعة التوسعية لعدوها الإسرائيلي وفي وجه مشروع الهيمنة الأميركي التي تأكدت بالدم الذي يكاد يغرق العراق، ويهدد بطوفان يتمدد إلى كل جوار أرض الرافدين.
إنه القمع في مقابل الأفكار والاجتهادات وأحلام الغد الأفضل..

والقمع العربي أصناف وأشكال أسهلها وأقلها خطورة الاعتقال والمحاكمة الصورية التي تحاسب على النوايا... أما الأقسى والأشرس فهو الغواية بالسلطة أو بالمال أو بكليهما، بحيث ينحرف المثقف بأفكاره، أو يحوِّر المبادئ والقيم بما يخدم السلطان، وثمة إغراء أفعل: خذ ما شئت واصمت! أخرج إلى الدنيا واستمتع بمباهجها واكتب في أدب الرحلات جديداً! أو هذا التلفزيون تحت تصرفك، فأنتج ما شئت من البرامج والمسلسلات التاريخية، أو أعد تقديم الخالدين من الشعراء والموسيقيين والعلماء! ارفع معنويات الأمة بتذكيرها بالمبدعين من أبنائها الميامين. بالماضي يصنع المستقبل!

في بلد كلبنان، تصبح الطائفة سياجاً للحرية!! ويتحصّن أصحاب الآراء المختلفة، بغض النظر عن خطلها أو مدى الأذى الذي تلحقه بالقيم الوطنية، بالعصبية المذهبية... lt;فالطائفةgt; في لبنان شأنها شأن lt;النظامgt; في مختلف الأقطار العربية lt;عجل مقدسgt; يمنع المسّ بحقوقها، أو التعرض لتأثير سمومها على الأجيال الجديدة التي تشبّ مقموعة، منغلقة على ذاتها، لا تعرف lt;الآخرgt; وهو شريكها في الوطن، تقدم مرجعياتها الطائفية على شعبها وأمتها، وتقدم زعيمها على الوطن، وتنسى lt;عدوهاgt;، بل هي قد تندفع إليه بالنكاية أو رغبة في الفوز بالسباق على السلطة بغض النظر عن الكلفة الباهظة لهذا الرهان التي سيتكبدها الشعب جميعاً.

إنه lt;القمعgt; الذي يذهب بالمبدع والمجتهد والباحث والمفكر إلى الصمت أو إلى التشرد في ديار الاغتراب، يبيع مراراته للأجنبي، في حين يحتل المنافقون والنصّابون والأدعياء والجهلة مواقع lt;قيادة الرأي العامgt; بالشعارات المفرغة من أي مضمون...
أما في لبنان فإن أهل السياسة وهم بغالبيتهم الساحقة زعماء طوائف أو مذاهب، وبالتالي فئويون هم الأوصياء على
الأفكار، يلوّثونها بأغراضهم الطائفية والمذهبية، ويعمّمونها عبر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، بذريعة أنهم إنما lt;يحاورونgt; أو lt;يتحاورونgt;... ويفيدون من مناخ الحرية التي يتمتع به لبنان منفرداً!

ربما لهذا، من ضمن أسباب أخرى كثيرة، تتسع المسافة بين الناس وبين وسائل التعبير سواء أكانت صحافة أم محطات تلفزة أم إذاعات إلخ.
? ? ?
في هذا السياق، استأذن في كلمة وداع لقلم عربي شجاع، قاتل طويلاً في معارك التحرر من الاستعمار، وقاوم النزعة إلى القمع في نظام جمال عبد الناصر الذي أحبه وآمن بزعامته واستمر على إيمانه حتى اليوم الأخير. ولقد سجن محمد عوده ولكنه لم يتخل عن إيمانه بالثورة وقائدها، وحين أفرج عنه، ترك مرارته في المعتقل، وعاد يتابع معركته ضد الفساد الذي يلجأ إلى القمع بحجة حماية النظام، وقد يتوصل إلى اتهام أصحاب الآراء بالعمالة للأجنبي وخدمة العدو لكي يغطي جريمته ضد الحرية وضد الديموقراطية وضد الفكر... وبالتالي ضد كل الأهداف النبيلة التي تبرّر توصيف نظام ما بالثورة من أجل الغد الأفضل.

لقد رحل الكاتب والصحافي الكبير محمد عوده، وشيّعه رفاق قلمه وحملة آرائه واجتهاداته في القاهرة أمس، بعد عمر طويل أمضاه في خدمة ما آمن أنه الحق، وأن الطريق إلى الديموقراطية والعدالة هو عبر الحقيقة وأن نفاق الحاكم يغريه بارتكاب المزيد من الأخطاء، ويأخذه بعيداً عن شعبه.
وأكثر ما يحزن في رحيل محمد عوده أن الذين أخذوا مكانه، وأمكنة رفاق جيله من الكتّاب والصحافيين المجيدين ورسامي الكاريكاتور المبدعين، ليسوا من طينته خلقاً ولا هم في مثل ثقافته وفي مثل دأبه في البحث عن الحقيقة، ولا هم في صلابة وطنيته وإيمانه بعروبته.
ومن أسف أن الصحافة في مصر خصوصاً قد فقدت بالإضافة إلى دورها الريادي مهنياً lt;قضيتها الوطنيةgt;، فباتت أشبه بالنشرات الرسمية، وحتى صحف المعارضة ليست أحسن حالاً مما يسمى lt;الصحف القوميةgt;...

لقد رحل جيل الرواد أو المبدعين أو أنهم أزيحوا من مواقعهم، لتتسع المساحة أمام lt;كتِّيبةgt; النظام أو ألسنة lt;رجال الأعمالgt; الذين يكتبون بالفاتورة فيشوّهون الوقائع ويلوون عين الحقيقة لخدمة أصحاب المصالح.. على حساب شعبهم وأمتهم. ولا مانع لديهم من التلاقي مع إسرائيل، إذا كانت lt;المصلحةgt; معها أو عبرها.
وبرغم أن قلم محمد عوده قد توقف عن الكتابة منذ زمن، إلا أن بيته كان ملتقى للأدباء والكتاب المصريين أو زملائهم العرب القادمين من أقطار مختلفة، يتشاكون فيه الهموم، ويجددون العزم على العمل لاستيلاد الأمل مجدداً، مهما طالت الطريق وتزاحمت عليها المتاعب..

... وحكاية ميشال كيلو بسيطة: بدل أن يكون هذا الصوت الوطني الهادر علامة صحة على سلوك الحكم في بلاده، استطاعت lt;الأجهزةgt; بضيق أفقها وخوفها من الأفكار والآراء والكلمات أن تصنفه lt;عدواًgt; وأن تشهِّر به بعد اتهامه في وطنيته... وسط تصفيق وتهليل وارتياح الكتّيبة المنافقين في منابر السلطة الذين يصرّون على حجب نور الشمس بأكفهم، فيتسببون في إدانة إضافية للنظام إذ يظهرونه خارج عصره فضلاً عن فضح ضيق أفقه وضيق صدره وغربته عن طموح أمته إلى غدها.