تعلقت القضية التي استحوذت على الاهتمام الرسمي والإعلامي في تونس، خلال شهر رمضان المعظم، بموضوع حساس للغاية، يتمثل في مسألة الحجاب التي تسجل حضورها حينا وتغيب في أحايين كثيرة في المشهدين السياسي والإعلامي التونسيين.
فهناك من وصف كيفية تعاطي الدولة التونسية مع الحجاب بالحملة المحكمة، التي تسعى إلى فرض الأطروحة الرسمية المعارضة للحجاب والتي لا تقبل أي نوع من الحوار، قد يمارس تسامحا مع مناصريه.
وكما هو معروف، ليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الحجاب بشكل ساخن، بل إن معارضة الحجاب، موقف رافق الدولة التونسية منذ استقلالها وتبنيها لنهج التحديث في كافة المجالات.
ولكن رغم ذلك، فإنّ إعادة الطرح من جديد، أكيد أنها تحمل أسبابها الخاصة. فما هي هذه الأسباب الجديدة والأخرى القديمة وأيضا ما هي الأطروحة التي تقدمها الدولة التونسية لتبرير معارضتها للحجاب؟ وما علاقة هذا الموقف الرافض بشدة بطبيعة الدولة التونسية وآفاقها؟
في ما يخص الأسباب، من الصعب الإمساك بما هو علمي دقيق، لذلك فإن الملاحظة والقراءات المبنية عليها، مثلت الدافع الأساسي لإعادة فتح ملف الحجاب. وترى عين الملاحظ في تونس، انه في السنوات الأخيرة عادت ظاهرة ارتداء الحجاب لدى الفتيات والنساء، بشكل يلفت الانتباه في شتى فضاءات المعاهد والكليات وحتى بعض الإدارات العمومية والخاصة. وقد فسر البعض عودة ظاهرة الحجاب ولبس الجلابيب، بهيمنة الفضائيات الدينية والتأثير السلبي لبعض الدعاة من أصحاب الكاريزما الدينية.
ولكن مثل هذه الأسباب، وإن تسبطن جزءا هاما من تفسير عودة الحجاب اللافتة للانتباه وللأنظار، فإنّ المؤكد هو أنّ معالجة الظاهرة من خلال مقاربات اقتصادية وثقافية وسوسيولوجية وغيرها، سيوضح الظاهرة ويجعلها قابلة للفهم علميا وموضوعيا، خصوصا أنها تكتسح قئة من الإطارات المثقفة وشريحة من الطلبة.
وأمام هذه المؤشرات، استبد قلق رسمي في تونس اتخذ طابع الحملة، تمثل في تصريحات من أعلى القمة وساسة قياديين وكذلك بعض المختصين في الحضارة والفكر الديني من النخبة التونسية.
والمعروف أنه في خطاب 25 يوليو 2005 وبمناسبة إحياء ذكرى عيد الجمهورية، تم تناول مسألة الحجاب وتمرير أطروحة الدولة إزاءها.
وتتضمن الأطروحة الرسمية رفضا قطعيا لما تصفه بالزي الطائفي الدخيل، مبرزة أن تونس متمسكة على الدوام بإسلامها الحنيف، دين الاعتدال والتفتح والوسطية والتسامح، لذلك من الضروري حسب الموقف السياسي الرسمي للدولة التونسية، التفريق بين الزي الطائفي الدخيل واللباس التونسي الأصيل.
وقد سعى وزير الشؤون الدينية السيد أبو بكر الأخزوري في حديث لجريدة laquo;الصباحraquo; التونسية الى تحليل رؤية الدولة ورفضها للرموز الموحية بالطائفية قائلا في هذا الخصوص laquo;إن الطائفي الدخيل، ليس من الدين في شيء، وإنما اتخذه البعض عنوانا على انتماء سياسي وهذا اعتداء على الدين والسياسة معا، إنه امتطاء الديني لبلوغ مآرب سياسية آيديولوجية لم تعد خافية على أحد، بحيث انتفى في هذا الصدد المقصد الشرعي وحلت محله النزعة المذهبية الطائفية المهددة لتوازن المجتمع ووحدتهraquo;.
وردا على أطراف يسارية، وأخرى حقوقية رأت في ارتداء الحجاب مسألة شخصية ذات علاقة بالحرية الفردية وحقوق الإنسان، قال الوزير الأخزوري إنه لا صلة لارتداء الزي الطائفي بالحرية الفردية، لأنه مخالف للمعهود المستساغ في المجتمع، الذي من حقه أن يدافع عن ذاتيته الحضارية.
ولإيصال الموقف الرسمي المعارض للزي الطائفي إلى أكبر قاعدة اجتماعية ممكنة، هيمن الحجاب في رمضان 2006 بتونس على كثير من المسامرات الليلية، والمحاضرات التي قام بها ساسة في مواقع قيادية وأيضا مثقفون من مختلف المجالات المعرفية.
ولقد ربطت هذه المداخلات بين مسألة الحجاب وتهديده للمكاسب الرائدة، التي تحققت للمرأة التونسية منذ إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس 1956 والتي من أهمها منع تعدد الزوجات وما رافقه من بنود ثورية، تشمل الطلاق والنفقة واستقلالية المرأة والتعاطي معها كشريك اجتماعي.
وإن بدا التركيز في مجمله على الزي الطائفي الخاص المرأة، فإن الناطق باسم رئاسة الجمهورية، السيد عبد العزيز بن ضياء، إضافة إلى إعلانه معارضة الحكومة بشدة للحجاب المروج حاليا في الجامعات وبعض الجهات التونسية، فقد وصف باللباس المستورد والدخيل ارتداء بعض الرجال التونسيين laquo;الهركةraquo; وإطالة اللحي، واعتبر ذلك تعبيرا عن أشكال غريبة مستوردة من أفغانستان وخارجه.
بعض رجال الفكر والثقافة في تونس، تناولوا هذه المسالة من زاوية، مرة حضارية ومدى تنافرها مع طبيعة الهوية التونسية وخصوصيتها المتسامحة المنفتحة، ومرة أخرى فقهية وذلك من خلال القول بأن الآيات الخاصة بالحجاب في القرآن الكريم لا بد من ربطها بأسباب النزول بالسياق التاريخي والحضاري، مبرزين أن الآيات الخاصة بالحجاب تشمل نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتهدف ساعة نزولها إلى التفريق بين النساء الحرائر والأخريات الجواري، والهم بالنسبة إليهم تأمين صفة الاحتشام التي ينادي بها الدين الإسلامي الحنيف.
هذه هي المقاربة السياسية الرسمية لمسألة الحجاب ومقاربة شق من رجال الفقه والحضارة، لذلك يلمس المتابع إهمالا لأنواع من المقاربات الأخرى ذات أهمية بالغة وربما أكثر قدرة على تفكيك رموز هذه الظاهرة وتناميها ونقصد بذلك المقاربات السوسيولوجية وأيضا الاقتصادية.
ولعل التركيز على البعدين الأمني والسياسي في مقاربة عودة ظاهرة الحجاب في تونس، تخفي ما يمكن أن تنتجه معالجة أحادية منقوصة، خصوصا أن أغلب المقبلين على ارتداء الحجاب لا علاقة لهم بخلفية أو أهداف سياسية، الشيء الذي يرجح اعتماد المقاربة السوسيولوجية وإقحام أطراف المجتمع المدني في قراءة الظاهرة والجدل حولها من دون محاذير سياسية.
فالمعالجة السياسية مهما كانت قوتها، تبقى ظرفية، بينما المعالجات الأخرى تسعى إلى المدى البعيد وتحاور الجمر النائم تحت الرماد، وتونس لا تخلو من كفاءات تعي تاريخها وحضارتها والتهديدات المحدقة بالبلدان العربية والإسلامية ككل.
ومن زاوية أخرى نعتقد أن الحملة الرسمية ضد الزي الطائفي مفهومة سياسيا وثقافيا أيضا. فتونس من أكثر التجارب العربية حداثة ثقافية واجتماعية وعلمانية وتستمد الكثير من وهجها في مقاربتها الثورية والتقدمية لملف المرأة وهي ترفض كل ما يمكن أن يهدد المكاسب الحداثية وأن يعيق قطار هذه المكاسب، ويطرح البعض السؤال التالي: هل ان المرأة التونسية التي ترتدي الحجاب والجلباب، ومن يدري أن يتطور الأمر إلى البرقع، هل إنها ستحافظ على حالة الزهو التي تكنها لمسألة منع تعدد الزوجات أم أن الحجاب وما تبعه سيحمل معه أيديولوجيته وثقافته؟
وفي الحقيقة معارضة الدولة التونسية لمسألة الحجاب هي معارضة لأنموذج حضاري ثقافي، عملت على التصدي له ومحوه منذ الاستقلال مع العلم أنه في فترة الاستعمار كان التعاطي مع الحجاب مختلفا حيث طغت آنذاك النظرة السياسية على الثقافية. وقد عبر الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 9 يناير 1929 عن موقفه من مسألة الحجاب، عندما ألفت حبيبة المنشاري مسامرة عن وضع المرأة التونسية، فأظهر في ذلك التاريخ رفضه لمضمون المسامرة، منتقدا دعوة صاحبتها ومدافعا باستماتة عن المحافظة على الحجاب بوصفه جزءا لا يتجزأ من الذاتية التونسية.ولكن ما أن نالت تونس الاستقلال حتى انقلب بورقيبة على الحجاب وأصبح دفاعه هجوما شرسا، مؤكدا أنه ليس من أنصار الحفاظ على الحجاب وأنه يختزله في بوتقة laquo;العادات والتقاليد البالية والأوهامraquo;. بل إن الخطاب حول الحجاب عند بورقيبة تضمن دعواته إلى الاستغناء عنه وأنه عائق أمام التنمية والتطور والحداثة ويتعارض مع مشروع الدولة الوطنية الحديثة. لذلك فإن المعارضة بنيوية وتنبثق من جوهر العقل السياسي التونسي، ومن خلاله يمكننا أن نفهم خطورة هذه العودة اللافتة لارتداء الحجاب بالنسبة إلى الدولة وأيضا الى مناصري المشروع التحديثي التونسي.
ومن هنا يمكننا أن نستنتج أيضا أن الحداثة الاجتماعية والمقاربة التونسية الخاصة للدين الإسلامي تعيشان حالة أزمة تقتضي بدورها الحفر في أسباب عدم تغلغلهما بالشكل الذي يحمي التونسيين من مظاهر الطائفية ومن أهل الدمغجة الدينية الذين يحركون الوجدان العربي الديني اليوم. ونعتقد أن طرح هذه المسألة للبحث والنقاش سيقودنا إلى مواطن التقصير، سواء من كل مستوى الإعلام الديني أو على مستوى التعاطي الذي يرفض الاعتراف بأي خطر وهو في مرحلته الجنينية. ونظرا إلى أهمية المسألة ودلالاتها، فإن إقحام المجتمع المدني وبجميع أطرافه وأطيافه، قد بات أكثر من ضرورية لفتح النقاش والحوار ولفهم الظاهرة من مختلف زواياها، وذلك بالاستناد إلى شروط الاتصال البناءة المتمثلة في الموضوعية والبعد العلمي والقدرة على تقديم البراهن حتى يتسنى الاقتناع بعيدا عن أي جبة سياسية، قد تخلق مسافة تعطل عملية التلقي ونجاحها.

[email protected]