عبد الباري عطوان


لم يعد الحديث في الأوساط البريطانية والامريكية يدور حول البقاء او الانسحاب من العراق، فهناك اجماع بين معظم المحللين الاستراتيجيين علي خسارة الحرب، وما هو موضع خلاف هو موعد سحب القوات، والفترة الزمنية التي سيتم من خلالها، وخطط ما بعد الانسحاب.
فلا جدال حول مدي تدهور الاوضاع في العراق، واستحالة تحسنها في الأشهر القليلة المقبلة، فقد تحول البلد كله الي مقبرة جماعية للعراقيين بالدرجة الاولي والغزاة بالدرجة الثانية، وارقام القتلي والجرحي في تصاعد مرعب.
ادارة الرئيس الامريكي جورج بوش التي غزت العراق واحتلته علي اساس الحسابات الخاطئة وحزمة من الاكاذيب والحرب الاعلامية المضللة، باتت تدرك ان الاستقرار بات بعيد المنال، والديمقراطية عملة غير مقبولة بل مثيرة للسخرية في اوساط العراقيين، وباتت تبحث حالياً عن خروج مشرف، ولكنها لن تجده، وستواجه المصير الذي واجهته ادارة نيكسون في فيتنام، والحكومة البريطانية قبلها في عدن.
الجرح العراقي غائر، ولا شفاء منه، وسيظل ينزف حتي بعد الانسحاب البريطاني والامريكي، ويطارد المتسببين فيه ربما لعقود قادمة، فكل ما يمكن انجازه حاليا هو تقليص الخسائر، وفي اسرع وقت ممكن.
ويدرك الرئيس بوش الابن وحليفه الأوثق توني بلير ان سفينتهما تغرق وتتجه الي القاع بسرعة رهيبة، وباتا يبحثان عن عجلة انقاذ، ولكنهما يكابران في الوقت نفسه ويرفضان التسليم بالهزيمة، والاعتذار لشعبيهما، وللشعب العراقي الذي يدفع ثمن حماقتهما دماً وخراباً.
الرئيس بوش ما زال يكرر بانه ما زال واثقاً من انه سيسلم الأمن الي القوات العراقية، التي يعتقد انها ستكون قادرة علي القيام بهذه المهمة بكفاءة عالية، وبما يسهل عملية الانسحاب البريطاني والامريكي. والاخطر من ذلك ان السيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق يؤكد انه بحاجة الي ستة اشهر فقط لتحقيق الأمن والاستقرار وحل الميليشيات.
ـ ـ ـ
ثلاث سنوات ونصف سنة، والقوات الامريكية البالغ تعدادها 140 الفا، ومعها سبعة آلاف جندي بريطاني و25 الفا من القوات المتعددة الجنسية، ومئات الآلاف من قوات الامن العراقية تعجز بشكل مخجل عن تحقيق هذا الهدف، فكيف سينجح السيد المالكي في ستة اشهر فيما فشل فيه الجنرالان غاردنر وكيسي ومعهما بريمر وخليل زاد؟
في العراق الآن وحسب تقرير اصدرته وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) 300 الف جندي من قوات الشرطة والحرس الوطني العراقي، 115 الفا منهم لا يذهبون الي مقار اعمالهم، ويتلقون مرتباتهم وهم في منازلهم، ومعظم وحدات هذا الحرس والأمن تشكلت علي اسس طائفية محضة، وترفض الخدمة في اماكن تشكل الطائفة الاخري، سنية كانت او شيعية، الغالبية العظمي فيها. والاخطر من هذا وذاك ان ثلث ما تبقي من وحدات في حال اجازة دائمة معظم الوقت.
تقرير البنتاغون نفسه اكد ان ولاء معظم قوات الحرس الوطني والشرطة للأحزاب الطائفية، وليس للدولة، وينعدم عندها مفهوم المواطنة، فكيف يمكن ان تحقق الامن والاستقرار وتنفذ اوامر السيد المالكي بحل الميليشيات الطائفية ايضا التي تلتقي معها علي قاعدة الولاء نفسها؟
الغريب في الأمر ان السيد المالكي غضب غضبا شديدا عندما وضعت له الحكومة الامريكية جدولا زمنيا لتحقيق الأمن كان بمثابة التهديد له ولحكومته، وقال في انتفاضة كرامة انه يرأس حكومة منتخبة ذات سيادة ولا يتلقي اوامر من احد. حكومة منتخبة نعم، ولكن ذات سيادة فهذا امر مشكوك فيه، فكيف تكون حكومة ذات سيادة وهي تعتمد في بقائها علي القوات الامريكية، وعجزت كليا عن حماية نفسها وتمترست في المنطقة الخضراء الوحيدة شبه الآمنة، ومن غير المعتقد انها يمكن ان تستمر يوما واحدا في السلطة في حال انسحاب القوات الامريكية.
ـ ـ ـ
الادارة الامريكية لا تستطيع تحمل تكاليف الحرب المادية والبشرية، ولذلك فإن لحظة الحقيقة تقترب بسرعة، ومن غير المستبعد ان نري خطوطها واضحة مع انتهاء الانتخابات النصفية للكونغرس بعد عشرة ايام، فمئة قتيل امريكي في شهر تشرين الاول (اكتوبر) وحده، بينما يقدر عالم الاقتصاد الامريكي الشهير جوزيف ستيغليتس Joseph Stiglitz الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد ان تكاليف حرب العراق المباشرة ستصل الي نصف تريليون دولار (500 مليار دولار) اذا بقيت القوات الامريكية لأربع سنوات قادمة، اما غير المباشرة فستصل الي تريليوني دولار (2000 مليار) سواء بقيت هذه القوات او انسحبت.
العراقيون يهربون من العراق الجديد بالآلاف يوميا باتجاه تركيا وسورية والاردن بحثا عن السلامة، واكثر من مليون منهم غادروا مقار اقامتهم الي اماكن اخري هربا من التطهير الطائفي والعرقي الذي تمارسه الميليشيات، واصبح العراقي، في زمن المالكي والباجه جي وعلاوي والطالباني والجعفري يحتاج الي تأشيرة دخول، وتصريح اقامة في منطقة كردستان العراق وربما قريبا في البصرة.
ومن المفارقة ان الاربعة ملايين عراقي الذين فروا من حكم الطاغية مثلما كانوا يكررون علي اسماعنا في الفضائيات والصحف لم يعودوا الي عراق الحرية والديمقراطية والتحرير، وفضلوا البقاء في المنافي الآمنة التي طالما اشتكوا منها ومن برودتها وتحرقوا شوقاً لمغادرتها الي الوطن الأم.
ـ ـ ـ
نحن نعيش هذه الايام حلول الذكري الخمسين لحرب السويس، وهي الحرب التي خاضتها بريطانيا وفرنسا واسرائيل ضد مصر الناصرية. الدول الثلاث انتصرت في الحرب في البداية، فقد احتلت اسرائيل سيناء، والقوات البريطانية والفرنسية قناة السويس، ولكن هذا النصر انقلب الي هزيمة، وأجبرت هذه القوات علي انسحاب كان بداية النهاية للامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وبداية صعود الامريكية، وانتهي انطوني ايدن رئيس وزراء بريطانيا، ومهندس هذه الحرب، الي الاستقالة وبقية القصة معروفة.
التاريخ يعيد نفسه، ومصير بوش وبلير ربما يكون اسوأ من مصير ايدن، لان المحاكمة كمجرمي حرب ستكون في انتظارهما، فدماء 655 الف عراقي استشهدوا بسبب حربهم غير الاخلاقية هذه لن تذهب هباء، كما ان دولتيهما ستظلان مطالبتين بدفع تعويضات للشعب العراقي لعقود قادمة، مثلما ما زال العراق يدفع تعويضات للكويت عن سبعة اشهر احتلال، ومقتل العشرات حتي هذه اللحظة (آخر دفعة الاسبوع الماضي بلغت 450 مليون دولار).
اما مصير الذين تعاونوا مع قوات الغزو والاحتلال، ومشروعها السياسي، وقدموا تغطية شرعية لمقتل مئات الآلاف من اشقائهم، فعليهم ان يحضروا جوازات سفرهم الاجنبية، والاستعداد لركوب اول طائرة عمودية تقلع من المنطقة الخضراء عندما يحين موعد الهروب الكبير، وننصحهم ان يتعلموا من تجربة زملائهم في سايغون الفيتنامية، اي ان لا تفوتهم آخر طائرة عمودية مغادرة.