بلال الحسن

استطاع نجاح حزب الله اللبناني في مواجهة الجيش الإسرائيلي بريا، ومنعه من تحقيق أهدافه، وإلحاق الخسائر به، أن يثير جدلا صاخبا داخل إسرائيل حول من يتحمل مسؤولية هذا الفشل العسكري. وبرز في هذا النقاش سؤالان أساسيان، سؤال أول، حول ما إذا كان الجيش الإسرائيلي سيستطيع أن يبقى قوة ردع في مواجهة المنطقة العربية، وسؤال ثان حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية ستواصل الاعتماد على الجيش الإسرائيلي في أداء مهمات الردع هذه، أم أنها ستضعه جانبا لتتولى المسؤوليات بنفسها.

ولكن تزعزع وضع الجيش الإسرائيلي ليس المشكلة الوحيدة التي تنشغل بها إسرائيل الآن. هناك مشكلة ثانية، نابعة منها أو منفصلة عنها لا يهم، تتعلق بالنظام السياسي في إسرائيل، هل هو باق على حاله أم أنه دخل مرحلة التغير النوعي؟ والذي يثير هذا السؤال، ثم يثير حوله جدلا صاخبا، هو بروز اسم أفيغدور ليبرمان، المهاجر الروسي حديثا إلى إسرائيل، وزعيم حزب laquo;إسرائيل بيتناraquo;، والمالك لكتلة برلمانية من 11 نائبا. لقد أصبح ليبرمان الآن وزيرا في حكومة إيهود اولمرت، وفصلت له وزارة خاصة جديدة تحمل اسم (وزارة التهديدات الاستراتيجية). واصبح ليبرمان الآن، هو وحزبه، زميلا لحزب العمل صاحب التاريخ اليساري (؟؟) العريق، وأصبح أيضا وجها لوجه مع النواب الفلسطينيين في الكنيست، وهو الذي يطالب بطردهم ومحاكمتهم كطابور خامس.

إن ليبرمان رجل إشكالي، بسبب يمينيته المتطرفة، وبسبب ما ينطوي عليه الاتجاه اليميني المتطرف من عنصرية وفاشية، وهو يقدم بأقواله المعلنة كل ما يمكن أن يوفر مادة إعلامية لمهاجمته أو للتخوف الشديد منه، فهو يدعو مثلا إلى شن هجوم عسكري على ايران، حتى لو كانت واشنطن ترفض ذلك. وهو يدعو إلى تفجير سد أسوان في مصر، لأن مصر لا تقوم بما يلزم لمراقبة ممر صلاح الدين (ممر فيلادلفي) الذي يستعمله الفدائيون لتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة. وهو يدعو إلى اختيار حي سكني في غزة وتحويله بالقصف الجوي إلى ملعب كرة قدم، ردا على صواريخ القسام. وهو نصح وينصح بقتل الشيخ حسن نصر الله أثناء المهرجان الشعبي الذي عقده احتفالا بالنصر، حتى لو أدى ذلك إلى قتل آلاف الناس. إن هذه العينة من الآراء كانت تؤخذ أحيانا على محمل الهزل، أما وقد أصبح الرجل وزيرا للتهديدات الاستراتيجية، فإن آراءه هذه جديرة بأن تؤخذ على محمل الجد.

وقد اعتاد الجمهور الإسرائيلي، كذلك اعتاد العرب والغربيون بعامة، أن ينظروا إلى ليبرمان كظاهرة نشاز، أو كطرفة سياسية، أو كيميني فاشي متعصب، ويشبهونه باليميني النمساوي (يورغ هايدر). ولكن الجديد في الأمر هنا، أن كل زعماء إسرائيل الذين شنوا حملة ضارية ضد نجاح هايدر في الانتخابات النمساوية، يتعاملون الآن مع ليبرمان على أنه أمر واقع، وزعيم مقبول، وهذه سقطة أخلاقية وديمقراطية يجب أن تسجل. وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الاوروبيين، الذين نظروا إلى ظاهرة نجاح هايدر النمساوي على أنها ظاهرة خطرة، ولا بد أن تراقب وأن تحاصر، ولكنهم يقبلون الآن من إسرائيل ما سبق لهم أن رفضوه في النمسا. وإذا استمر هذا الموقف، فلا بد أن ينظر إليه أيضا كسقطة أخلاقية وديمقراطية.

ولكن المسألة مع ليبرمان تتجاوز هذا كله، فهو ليس مجرد ظاهرة يمينية فاشية أو عنصرية، وبدليل هذا الموقف السياسي أو ذاك، إنه، وفي الوضع السياسي الإسرائيلي، شيء أكبر من ذلك، وشيء أخطر من ذلك. إنه شخص يتطلع إلى قيادة دولة إسرائيل، وهو يعتبر نفسه موازيا لمناحيم بيغن، وأفضل من آرييل شارون، في قيادة اليمين الإسرائيلي، ووضع مفاهيمه السياسية الجديدة على الخريطة. أما إزاء ايهود اولمرت رئيس الوزراء الحالي، فهو ينظر إليه كمرحلة انتقالية فحسب، مرحلة انتقالية مناسبة لليبرمان لكي يقفز إلى موقع رئاسة الوزراء، ربما في الانتخابات لإسرائيلية القادمة.

تتجه إسرائيل الآن نحو العودة إلى نظام الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء (طبق في إسرائيل خمس سنوات وألغي في عام 2002). وفي سيناريو منافسة ثلاثية على هذا المنصب بين ليبرما، حزب laquo;إسرائيل بيتناraquo;، وبنيامين نتنياهو، حزب laquo;الليكودraquo;، وايهود باراك، حزب laquo;العملraquo;، يقول البروفيسور غادي برزيلاي، إن ليبرمان سيجرف في هذا السيناريو أصوات اليمين وحتى أصوات يمين الوسط، في حين أن نتنياهو وباراك سيتنافسان على أصوات الوسط، بينما ستمتنع غالبية اليسار عن التصويت أو تنتخب شخصا رابعا، ليست لديه أية فرصة للنجاح. وبالإمكان تخيل النتيجة، ففي حينه سيكون ليبرمان قريبا جدا من موقع القيادة.

ولكن المشكلة تتجاوز وصول يميني متطرف إلى موقع القيادة في إسرائيل، ذلك أن هذا القائد المحتمل يمثل تحالفا من نوع جديد، تحالف رأس المال والسلطة. وحول هذه المسألة يقول البروفيسور داني غوتوين laquo;إن سياسة ليبرمان هي النموذج الأكثر حداثة للفاشية الإسرائيلية، وهذا دمج خطير ويسعى إلى تأجيج الصراع في المنطقة، من أجل ترسيخ سيطرة رأس المال على الاقتصاد والسلطة، ومن أجل مأسسة العنصرية تجاه مواطني إسرائيل العربraquo;. ويقول غوتوين أيضا laquo;إن خطة ليبرمان للسيطرة على الحكم واضحة، فهو سيفسح المجال أمام اولمرت وبيرتس (وزير الدفاع) للغرق في لجان التحقيق، الأول (اولمرت) في التحقيقات حول العقارات التي في حوزته، والثاني (بيرتس) في الصراعات الداخلية في حزبه، وفي هذا الفراغ الناجم فإن ليبرمان سيبني نفسه على أساس أنه الشخصية الأكثر مسؤولية لدى الحكومةraquo;. ويشير غوتوين أخيرا إلى أنه laquo;منذ الآن أصبح واضحا أن الصلاحيات التي طلبها وحصل عليها ليبرمان كمسؤول عن (التهديدات الاستراتيجية)، تلغي الحدود بينه وبين رئيس الحكومة ووزير الدفاع، وتحوله عمليا إلى شخص فوقهما، وبعد أن تتراجع مكانة الاثنين، فإن ليبرمان سيحل الحكومة، ويقود البلاد إلى انتخابات جديدةraquo;.

هكذا ينظر الخبراء الإسرائيليون إلى انضمام ليبرمان إلى عضوية الحكومة الإسرائيلية، وهكذا يحللون ظاهرته. ولكن ليبرمان كما قلنا ليس مجرد ظاهرة، إنه نتاج طبيعي لمسيرة اجتماعية وسياسية مديدة، بدأت عام 1977 ولا تزال مستمرة حتى الآن، ويبدو الآن أنها تقارب الوصول إلى ذروتها. عام 1977، وبعد نتائج حرب العام 1973، خسر حزب العمل اليساري (؟؟) الأغلبية النيابية لأول مرة، وحاز اليمين الإسرائيلي (تكتل جاهال ثم الليكود) بقيادة الزعيم التاريخي لليمين مناحيم بيغن، على الأغلبية لأول مرة. كثيرون اعتبروا آنذاك أن هذا النجاح لليمين هو حدث طارئ في الحياة السياسية الإسرائيلية، وكان مناحيم بيغن يحذرهم وينبههم إلى خطأ هذه النظرة. وبدأت منذ ذلك الحين مرحلة صعود اليمين في إسرائيل، فجاء إسحق شامير، وجاء بنيامين نتنياهو، وجاء آرييل شارون، وجاء ايهود اولمرت إلى السلطة، وكان كل واحد من هؤلاء يمثل منعطفا يمينيا أشد تطرفا من الآخر، وها هي النتيجة الطبيعية لمسار اليمين تكاد تصل إلى ذروتها مع بزوغ نجم ليبرمان، وأصبح تحول المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، ثم نحو اليمين المتشدد، ثم نحو اليمين الفاشي، ظاهرة ملموسة يدرسها علماء السياسة والاجتماع.

ولكن الأيام القادمة ستطرح وبحدة، سؤالا مهما حول ديمقراطية دولة إسرائيل، حول الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما يقول الأميركيون والغربيون. هل ستستمر هذه النظرة إلى ديمقراطية إسرائيل على حالها؟ وهل سيستمر التعامل مع إسرائيل، يمينية وفاشية، على المنوال نفسه الذي ساد خلال ثمانية وخمسين عاما مضت؟ سؤال فكري وسياسي وأخلاقي يطرح نفسه متحديا قيم الديمقراطية الغربية.