علاء الدين الأعرجي


رسالتان تثيران مزيدا من القلق .. تلقيت خلال الأيام الأخيرة رسالتين تثيران مزيدا من القلق. فــــقد عزاني أحد أقربائي بمقتل زوج ابنة أختي. وكانت الأسرة قد هُددت قبل ذلك عدة مرات للنزوح الي حي آخر.
وقال ان العراقيين منهمكون بقتل بعضهم بعضا، الي حد الابادة الجماعية، وان هناك تهجير جماعي بين المناطق. فالسنة يلزمون الشيعة علي الرحيل الي منطقة شيعية والا يتعرضون للويل والثبور، والقتل كما حدث للمرحوم أياد زوج ابنة أختي، والعكس صحيح من الجانب الآخر.
كما تلقيت رسالة أخري من أحد الأصدقاء ينبهني الي خبر مأخوذ من بعض المواقع الأمريكية الرسمية، يكشف عن خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، يتقسم بموجبها العراق الي ثلاثة بلدان: كردستان وسنيستان وشيعستان، فضلا عن تقسيم أو تغيير حدود بقية البلدان العربية والآسيوية في المنطقة. ونلاحظ ان أسماء البلدين الأخيرين في العراق ترتبط بالطابع غير العربي والطائفي فقط، مما يلغي الهوية العربية للعراق تماما.
هاتان الرسالتان أعادتا الي ذهني ذكريات وأحداثا، بعيدة بمقـــياس الزمن، قريبـــة جدا وحبيبة بمقياس العقل والقلب، وجديرة بالعناية والفهم وأخذ العِبر، في هذه الظروف القاسية بالذات، منها:
مسألة السنة والشيعة لم تكن مطروحة قبل دخول الأمريكان
في عام 1948 عندما كنت طالبا في المدرسة الثانوية المركزية في بغداد، اشتركت بنشاط في تنظيم اضرابات وخاطرت بقيادة تظاهرات صاخبة تدعو الي شجب واسقاط معاهدة بورتسموث ، بين بريطانيا والعراق، التي كانت ستحل محل معاهدة .1930
فعلي مدي عشرة أيام حامية ودامية، (من 17 كانون الثاني/ يناير حتي 27 منه 1948)، تعرضنا لضرب الشرطة المبرح ولرصاص النظام البائد ، خلال ثورة شعبية عارمة، استشهد خلالها العشرات من زملائي الطلاب العزل ومن عامة الشعب، حتي أسقطنا تلك المعاهدة.
وأذكر من هؤلاء الشهداء شمران العلوان وقيس الألوسي وجعفر مهــــدي الجواهري. ولهـــذه الأحداث وعواقبها، أهمية كبري في الوقت الحاضر بالذات، لانها تدل، بين أمور أخري، علي ان مسألة السنة والشيـــعة لم تكن مطروحة في العراق أصلا، ولا من الأمور المُفكر بها. في حين يقتتـــل السنة والشيعة اليوم، ويضحك العدو، ولسان حاله يقول يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ . كما يقول الشاعر العربي:

لا يدرك الأعداء من جاهل
ما يدرك الجاهل من نفسه

والمفارقة، الجديرة بالاعتبار في أحداث وثبة الـ48 هي ان رئيس الوزراء العراقي، الذي حدثت بسببه هذه الثورة الشعبية العارمة، بعد ان وقع مسودة معاهدة بورتسموث مع بريطانيا، التي اعتبرها الشعب العراقي مجحفة ومذلِة، كان صالح جبر وهو شيعي، أسقطته وحكومته تلك الانتفاضة العظيمة، التي قادها الطلاب الشيعة والسنة علي السواء.

والمفارقة الأدهي والأعمق، التي لم تكن تعتبر كذلك في وقتها، بل كانت تعد أمرا طبيعيا جدا، ولكنها اليوم جديرة بالتذكير والتأمل والتعلم والتفهم وأخذ العِبر، اذا اعتبرنا: هي ان الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري، وهو من أسرة شيعية نجفية عريقة، دَبَجَ قصيدة عصماء، تتكون من مائة بيت تقريبا، ليست في رثاء أخيه الشاب جعفر الذي استشهد برصاص النظام البائد، بقدر ما هي في تكريم الشهيد ، بوجه عام، كرمز للكفاح الوطني والقومي، فضلا عن انها كانت زاخرة بالتحريض الشديد علي الثورة ضد الحكام العرب الطغاة علي شعوبهم، والعبيد للآخر، وهجاء شديد لرئيس الوزراء الذي عقد تلك المعاهدة، وهو شيعي أيضا، كما قلنا. والأهم اكثر، ان هذا الشاعر (الشيعي) اختار، ان يلقي هذه القصيدة، في احتفال جماهيري هائل، جري له بهذه المناسبة، في أكبر جامع سُني (جامع الحيدر خانة)، يقع علي شارع الرشيد وسط العاصمة، حيث ضاقت ساحات المسجد الكبري بتلك الجموع الغفيرة، فتوزعوا علي الساحات المجاورة، ومنها ساحة الأمين سابقا (ساحة الرصافي فيما بعد)، والشوارع المحاذية التي وضعت فيها مكبرات الصوت. ولم يشعر الشيعة بأي غضاضة، لانه لم يُفضل ان يلقي قصيدته في مسجد مرقد الامام موسي الكاظم، في حي الكاظمية ، مثلا. كما لم يشعر السُنَة، في وقتها، بأي فخر أو تميز. فقد كانت هذه من الأمور غير المفكر بها أصلا. فهلا نعتبر؟!

نعود الي قصيدة الجواهري البليغة، التي علق عليها في احدي مقابلاته مع الصديق الناقد محمد الجزائري: فقال انها أفظع كل قصائدي وأشدهن لصوقا بذاكرتي.. لا تبارحني لدراميتها العنيفة، وما دفعت من ثمن غال في سبيلها، وهي أكثر القصائد والأحداث شخوصا في ذاكرتي (من كتاب ويكون التجاوز ). وأذكرها بقدر من التفصيل، لانها، في مبناها ومغزاها، لم تكن تخاطبنا نحن الطلبة الثائرين العراقيين الذين تعرضوا لرصاص الحكومة فقط، بل تخاطب جميع الشعوب العربية الأخري، وتحرضها علي الثورة ضد حكامها الخونة أو العملاء، كما تخاطب جميع الشعوب المستعبدة الأخري التي تناضل في سبيل تحرير وطنها وعزته.
يقول الجواهري في مطلع القصيدة وفي بعض مقاطعها البارزة:

أتَعْلَمُ أمْ انتَ لا تَعْلَمُ؟
بان جِراح الضحايا فَم ُ؟
فَم ٌ ليس كالمدعي قولَة ً
وليس كآخَرَ يسترحم ُ
يصيحُ علي المُدْقِعينَ الجياع ِ
أريقوا دماءَكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَفر المُهطِعين
أهينوا لِئامكمُ تُكْرَموا
(المهطعون : الذليلون)
ہ ہ ہ
أتعلمُ ان جِراحَ الشهيد
تَظَلُ عن الثأر ِ تَسْتَفِهمُ
أتعلم ان جِراحَ الشهيد
من الجوع تَهضِمُ ما تَلهمُ
تَمُصُ دما ً ثمَ تبغي دما ً
وتبقي تُلِحُ وتَسْتَطعِم ُ
ہ ہ ہ
يقولون من هُمْ أولاءِ الرُعاع ُ
فأفهِمْهُمُ بِدَم ٍ من هُمُ
وأفهِمْهُمُ بدم انَهُم ْ
عَبيْدُك ان تَدْعُهُمْ يَخدموا
وانَكَ أشرف من خيرهم
وكعبُك من خدِهِ أكرمُ

وهذا المقطع الأخير، الذي يخاطبنا نحن الطلبة وعامة أبناء الشعب الثائر، (الذين وصفهم بيان الحكومة بـ الرعاع )، وخاصة الشهداء من أقراننا، وهو موجه ضد رئيس الوزراء، السابق ذكره، مع بطانته، لا سيما الشطر الأخير، الذي لا يخفي معناه الهجائي العنيف علي القارئ اللبيب.
وهكذا كنا نكافح بدمائنا، ليس فقط ضد الاستعمار البريطاني، بل ضد أذنابه من السلطة العراقية الحاكمة وخاصة نوري السعيد وصالح جبر وبعض أفراد الأسرة المالكة، ولا سيما الوصي علي العرش عبد الاله، الذين كنا نعتبرهم دُمي تتحرك بخيوط السفارة البريطانية، ونحن واثقون اننا نناضل في سبيل تحرير بلدنا من هذه الطغمة الفاسدة والتابعة، وتحرير انفسنا من طغيانها وعسفها.
ولكن المفارقة الأصعب والأغرب، اننا لاحظنا بعد مرور نصف قرن ان الذين جاءوا بعدهم من الزعماء الوطنيين المحررين ، تحولوا الي حكام مستبدين أشد قهرا وارهابا، مما كان عليه أذناب الاستعمار، ليس في العراق وحسب بل في جميع البلدان العربية التي اندلعت فيها الثورات المباركة . ومع ذلك تقبلنا الحكم الاستبدادي علي مضض خضوعا لمبدأ القبول بالقهر الذاتي للوصول الي قهر الآخر . ولكن هزيمة الـ67 كشفت هشاشة النظم العربية الثورية وتخلفها، ليس علي الصعيد العسكري وحسب بل علي مختلف الصعد الحضارية البنيوية الأخري. وانتهت حرب 73 الظافرة بتحييد وتدجين أهم دول المواجهة (مصر والأردن). (انظر النهضة والسقوط في الفكر المصري غالي شكري).

نعم، كان الحكم الملكي البائد قبل الثورة المباركة فاسدا فعلا ولكن الذي جاء بعدها أدهي وأمر، الي حد أصبح معظم العراقيين يعتبر ذلك العهد البائد، بما فيه من عيوب، جنة الله في أرضه، بالمقارنة مع ما مر علي هذا الشعب من مآس ونكبات وما يمر به اليوم من ويلات، قد تكون أدهي في المستقبل.
والسؤال الكبير والصعب: لماذا حدث، وما يزال يحدث، ذلك؟ أي لماذا فشلت جميع تلك الانتفاضات والثورات أو الانقلابات الوطنية المخلصة، فوصلنا الي الحد الذي أصبحنا فيه نترحم علي عهودنا البائدة؟ ربما نجيب عن ذلك علي النحو التالي:

التفاعل الجدلي بين تحرير الذات من قهر الذات، وتحرير الذات من قهر الآخر، هناك مسألة أساسية تتعلق بالترابط الجدلي الوثيق بين تحرير الذات من ذاتها ، و تحرير الذات من عسف الآخر . ولم أكد أعثر، حتي الآن، علي مَنْ طرحها وعالجها جذريا وعلميا، علي نحو كاف. فعندما كنا وما نزال، نحن العرب نناضل في سبيل تحرير أرضنا، وتحقيق استقلالنا، لم نفكر، في ذات الوقت، بتحرير ذواتنا من قهرها الذاتي بتأثير العقل المجتمعي (شرحت أبعاده في كتابي أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي )، الذي سيطر علي أفكارنا وسلوكياتنا خلال فترة الـ14 قرنا الماضية بوجه خاص. فنحن ما نزال عبيدا لهذا العقل ، الذي تشكلت أهم خصائصه منذ ذلك الحين، علي الأقل. ومع ان هناك مظاهر وتجليات كثيرة لهذا العقل المجتمعي ما تزال باقية تنخر في جسد المجتمع العربي الاسلامي المعاصر، مما أدي الي تخلفه عن اللحاق بركب الحضارة العالمية المتفجرة، وبالتالي خضوعه وخنوعه لسيادة الآخر، وتجبره؛ غير اننا سنقتصر فقط علي ذكر مظهرين يتعلقان بصلب موضوعنا:

أولا: الحكم الاستبدادي، الذي تعرض له المجتمع الاسلامي العربي علي مر العصور، وخاصة منذ نهاية الخلافة الراشدة، لم تتمكن الشعوب العربية التخلص منه حتي اليوم، علي الرغم من جميع الانتفاضات والثورات، التي ما تكاد تنهي مرحلة من مراحله حتي يسقط الشعب في مرحلة أخري، قد تختلف في زعمائها أو شكلها ووعودها، ولكنها تعود تلك الزعامات فتمارس الاستبداد بدرجات وأشكال وذرائع مختلفة. كما حدث تماما بعد الثورات المباركة ، في مصر والعراق والجزائر وسورية وليبيا واليمن والسودان وغيرها. يقول هشام شرابي: ان الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار الا أسلوبا لفرض رأيها فرضا (النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي) (ص 16). وهكذا شكلت الذهنية الأبوية جزءا، مهما من العقل المجتمعي العربي، حسب مفهومنا. فأصبح الحكم الاستبدادي متأصلا في المجتمع العربي، يسعي اليه القائد بمختلف الحجج، وتقبله الرعية طائعة أو مرغمة، باعتباره قدرا محتوما، أو اذعانا للقول المأثور تاريخيا لدي المسلمين : من اشتدت شوكته وجبت طاعته .

ثانيا: التعصب المذهبي: ابتداء من لحظة وفاة الرسول محمد (ص)، ظهر النزاع علي الخلافة. ثم تكثَف وتعقد واستشري نتيجة استعار الصراع الدموي بين الأمويين والهاشميين. ومنذ ذلك الحين ظل هذا الصراع، الذي يطلق عليه الفتنة الكبري (بتعبير طه حسين في كتابه بنفس العنوان)، قائما، يختفي آنا ويظهر آنا آخر. فسبب الكثير من المآسي وسفك الدماء، كما هو معروف. ويطلق علي الهاشميين، وأتباعهم من الذين يعتقدون بحقهم بالمطالبة بالخلافة، بعد وفاة االرسول، الشيعة ، والفئة المعارضة لهم السُنَة . المهم في الأمر اننا لم نتمكن حتي الآن من تحرير أو تنظيف عقولنا من مجريات تلك الفتنة الكبري ، وذلك لاننا كنا وما نزال، نواجهها بـ عقل منفعل بتأثير العقل المجتمعي السائد، الذي ظل مسيطرا علي عقولنا كجماعات وافراد منذ اكثر من 14 قرنا، وذلك بدلا من ان نواجهها بـ عقل حداثي فاعل يدرك ويستوعب مستلزمات اللحظة الحاضرة وما تتطلبه من تكاتف جميع الجهود لمجابهة الآخر ، الذي استغل تفرقنا وصراعنا هذا من أجل السيطرة علي أرضنا ومواردنا ومقدراتنا.
تلاشي الصراع المذهبي في العراق
منذ ثورة العشرين، وأمريكا تعيد احياءه

وكعرب عراقيين، كنا منذ العشرينيات من القرن الماضي نمر بمرحلة ضمور ذلك الصراع، بل ربما تلاشيه تدريجيا أحيانا. وتجلي ذلك خصوصا خلال ثورة العشرين، (التي أشعلتها القبائل الشيعية بوجه خاص، وانضمت اليها القبائل السنية بفعالية شديدة). كما تجلي هذا التضامن والتعاون، بشكل واضح أيضا خلال ثورة / حركة رشيد عالي الكيلاني (السني)، في عام 1941، التي أيدها الشعب بجماهيره الشيعية والسنية علي السواء. ومن الأدلة علي ذلك ان والدي السيد صادق الأعرجي، الأديب والشاعر المعروف، الذي ينتسب الي أسرة شيعية عريقة، ألقي قصيدة من اذاعة بغداد تمجد تلك الثورة وتدعو العراقيين جميعا الي دعمها بأموالهم ودمائهم.

وتكرر هذا التضامن في وثبة 1948 وثورة 14 تموز (يوليو) 1958، بل لم تعد مسألة السنة والشيعة مطروحة أصلا. ومع ان الحرب العراقية الايرانية أذكت بعض المشاعر المذهبية لدي بعض الجماعات ذات التفكير الضيق، ولكن اللافت للنظر ان الجيش العراقي حارب ببسالة واخلاص وتضحيات كبيرة، ضد ايران، مع ان أكثريته الساحقة تتألف من الشيعة، مما يدل علي ان الشعور القومي العربي لدي العراقيين الشيعة يتجاوز كل نزاع مذهبي أو طائفي.

ولكن حين قامت قوات التحالف باجتياح العراق، يبدو ان المحتل عرف نقطة الضعف هذه، فقام باحياء تلك الجذوة الخامدة في العقل المجتمعي ، التي قد تؤدي الي تقسيم العراق. وقد ظهرت معالم تلك الدلائل منذ اختيار أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، الذي تكون بناء علي التشكيلة العرقية والطائفية المتنوعة للعراق. وذلك علي الوجه التالي: 13 شيعة، 5 سنة، 5 اكراد،، واحد كلدو آشوري، تركماني. وقد أدي هذا التقسيم، الذي تكرس فيما بعد، الي احياء النعرات الطائفية التي كانت نائمة في العقل المجتمعي، مما أسفر أخيرا عن قيام الحرب الطائفية المستعرة حاليا. ويقال، ان جهات أجنبية، عكفت علي تأجيج هذه النعرات، بالقيام بأعمال ارهابية علي المراكز الحساسة لكلا الطائفتين، مما ألهب الموقف. فأرجو ان يتنبه العراقيون خاصة والعرب عامة الي ما يحاك لهم، وهم في نوم عميق أو في ضلال سحيق. وهذا يذكرني بأبيات من قصيدة قالها الشيخ ابراهيم اليازجي منذ عام 1868، أوجهها الي العراقيين خاصــة والعرب عامة:

تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ
فقد طمي الخطب حتي غاصت الرُكبُ
الله أكبر، ما هذا المنام فقد
شكاكمُ المهدُ واشتاقتكمُ التُربُ
فشمروا وانهضوا للأمر وابتدروا
من دهركم فرصة ضنتْ بها الحقبُ