حكم البابا


للمرة التي لا أدري كم عددها (باعتبار رقمها تجاوز كل معلوماتي الرياضية) يخرج علينا النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم خدام في آخر أحاديثه الصحافية ـ التي خصّ بها مجلة الوطن العربي ـ ليعيد علي مسامعنا معزوفة الكف النظيف والثوب الطاهر والضمير النقي، والتي لكثرة ماسمعناه يرددها في الجرائد والمجلات والتلفزيونات والويب سايتات.
أصبحنا نشعر في كل مرّة نتعثّر بحديث للنائب المنشق بأننا أمام مشهد فحص النظر في مسرحية غربة ، الذي يحفظ فيه ممثلوه لوحة اشارات فحص النظر عن ظهر قلب، ويجيبون علي أسئلة الطبيب الذي يقوم بفحص نظرهم دون النظر اليها، فصرنا نعرف في أي دقيقة من دقائق أي اطلالة تلفزيونية له سينفي علاقته بأي تهمة فساد، باعتباره كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية فقط، ولم يستلم أي منصب له علاقة بالصفقات والرشاوي الداخلية.

ونعلم في أي سطر من سطور أية مقابلة ورقية معه سيدافع عن ثروات أبنائه، باعتبارها ربحاً حلالاً زلالاً لأعمالهم التجارية خارج سورية، ونحزر بعد كم سبيس علي لوحة مفاتيح الكومبيوتر في أي لقاء انترنيتي معه سيبرئ نفسه من تهم المشاركة بأي قرار حدّ من حرية السوريين، أو ساهم في انقاص عددهم علي وجه الأرض، وزاده في بطنها.


ومنذ أن ظهر النائب التائب علي شاشة قناة العربية معلناً انشقاقه قبل أحد عشر شهراً وحتي اليوم، كان همه الأساسي محو ذاكرة السوريين ـ الذين يعلمون أن عديل ابن أخت أي مختار في أقصي قرية سورية نائية، يتربح من منصب قريبه، ولايقتصر الأمر علي صاحب المنصب فقط ـ وايهام مواطنيه بأنه قضي أربعين سنة من عمره متنقلاً بين كراسي السلطة السيادية، عضواً في أكثر من قيادة، ومحافظاً لأكثر من مدينة، ووزيراً في أكثر من وزارة، ونائباً لأكثر من رئيس، لاهم له الاّ الحفاظ علي نظافة كفه، مشمراً بنطاله عن ساقيه، وماشياً علي رؤوس أصابعه، ليخرج في النهاية طاهر الذيل، ويستحق أن يعثر علي من يذرف دمعة علي طهرانيته!


لا أجادل في حق السيد خدام في الانشقاق عن النظام الذي ساهم في بنائه، وكان أحد كبار المستفيدين منه، وأري أن خطوته تندرج في اطار حرية وحق البشر في تغيير آرائهم وتبديل مواقفهم، ولكني أجادل في اعلانه البراءة من كل القرارات التي اتخذت، والأموال التي أهدرت، والفساد الذي عم، والاستبداد الذي خيم علي سورية طوال الفترة التي كان فيها النائب المنشق صاحب قرار ليس في الشأن الخارجي فقط، بل وفي كل تفاصيل الشأن الداخلي التي أعرفها كغيري من السوريين، حتي لو حاول النائب التائب الايحاء دائماً ـ في معرض دفاعه عن نفسه وتبرئه من النظام ـ بأنه لم يكن أكثر من رجل كرسي لا يملك قراراً، وحتي لو جهد حلفاؤه في جبهة الخلاص والمتعاطفون مع مشروعه الرئاسي المستقبلي في ايجاد المبررات غير المقنعة واختلاق الأعذار غير المفهومة، لتسويغ رفضه الاعتذار للشعب السوري، وخاصة بعد تصريحه الأخير لمجلة الوطن العربي بأنه لم يقم بعمل في حياته الا ويفتخر به، وهو كلام لو قاله رياض الترك أو ميشيل كيلو أو عارف دليلة أو أنور البني وسواهم من الذين دفعوا سنوات من أعمارهم في السجون، لوجدنا من يحاججهم فيه، فكيف برجل قضي نصف عمره يتنقل من البساط الأحمر الي السجاد العجمي، الي أرضيات سيارات المرسيدس؟!


أخيراً أستطيع أن أفهم الظروف التي تدفع بعدوين سابقين الي بناء تحالف سياسي علي قاعدة أن عدو عدو صديقي، ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يتحالف عدوان، أحدهما مصر علي التباهي بما ارتكبه في حق الآخر.

ولا أستطيع أن أفهم كيف يتوجه طرف سلطوي تحول الي معارض لشعبه مناشداً اياه الانتفاض علي سلطته، ليس فقط من دون أن يعتذر له، بل ومصراً علي الفخر بما ارتكبه بحقه عندما كان في السلطة، الا اذا كان النائب المنشق يظن أنه يتوجه الي شعب بلا ذاكرة!