مسعود ضاهر

لم تكن استقالة ستة وزراء من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 أزمة عابرة في تاريخ الصراع بين الفرقاء اللبنانيين. وبعد إقرار غالبية أعضاء الحكومة لمسودة المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري، فإن العلاقة بين الكتل السياسية اللبنانية قد ازدادت حدة بسبب ما سمته المعارضة مخالفات ميثاقية، ودستورية، ووفاقية قامت بها الحكومة.

غني عن التذكير أن أزمة الحكم في لبنان هي أزمة بنيوية مزمنة وناجمة عن التركيبة الطائفية المعقدة التي يصعب التوفيق بين القوى السياسية المكونة لها. فهي صيغة معقدة تحاول الجمع بين أكثر من سبع عشرة طائفة تختصر كل منها بزعيم أوحد يعمل على تغييب الزعماء الآخرين داخل طائفته أولا.

منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 برزت اتجاهات سياسية جديدة متباعدة ومتنافرة، فأدخلت لبنان مباشرة في ساحة الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; بعد أن بقي خارجها طوال الفترة السابقة. ومع امتداد الصراع لسنوات طويلة، بات لبنان في دائرة استراتيجية الأحلاف الإقليمية التي دخلت الصراع مع ldquo;إسرائيلrdquo; بالواسطة عبر دعم القوى المسلحة في فلسطين ولبنان. وطوال أكثر من ثلاثين عاما على بداية الحرب الأهلية تحول لبنان إلى ساحة إقليمية مشتعلة باستمرار، في وقت صمتت فيه مدافع جميع الأنظمة العربية، القريبة من ldquo;إسرائيلrdquo; أو البعيدة منها على حد سواء.

لذلك تعذر قيام حكم قادر على الجمع بين دعم المقاومة المسلحة من جهة وبناء الدولة الديمقراطية من جهة ثانية. وبقدر ما نجح اتفاق الطائف لعام 1989 في ايقاف الحرب الأهلية في لبنان، وتأمين صيغة ملائمة لبناء جيش وطني ساند المقاومة الوطنية اللبنانية التي أجبرت ldquo;إسرائيلrdquo; على الخروج مهزومة من جميع الأراضي اللبنانية باستثناء مزارع شبعا عام ،2000 بقدر ما تعذر قيام نظام ديمقراطي سليم يتجاوز الأسس الطائفية ويرسي دعائم المواطنية اللبنانية. وبرز مأزق الحكم في لبنان طوال السنوات الممتدة من عام 1989 حتى الآن، وأهم تجلياته:

1- التحول الكبير من النظام الرئاسي إلى نظام حكم هجين لم تتحدد فيه صلاحيات أي من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، بصفة كل منهما رأس السلطة التنفيذية.. فهناك تداخل حاد في الصلاحيات لدرجة أن كلا من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء يستطيع الادعاء بأنه هو رأس السلطة التنفيذية بموجب المواد المتناقضة التي وزعت صلاحيات كل منهما في دستور الطائف.

2- التداخل المعقد بين صلاحيات كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ولم تحدد المواد الدستورية كيفية إقالة الحكومة، أو محاكمة رئيس الجمهورية وإقالته، أو حل المجلس

النيابي بموجب مبادئ دستورية واضحة، ومعطيات معللة.

3- سيطرة ذهنية الميليشيات على جميع مؤسسات الدولة اللبنانية بحيث تم تعطيلها بصورة شبه تامة. فالنواب أو الوزراء هم، في الغالب، ممثلون لزعماء الميليشيات أو زعماء الطوائف. وبرزت ظاهرة خطيرة في الحياة السياسية اللبنانية حين جمع بعض الزعماء الأقوياء بين الزعامة الميليشياوية والطائفية، وكان في موقع المسؤولية العليا في إدارة الدولة. فسيطرت ذهنية الميليشيات على سلوك الأفراد والجماعات داخل مؤسسات الدولة وخارجها. ولم تعد هناك قيمة تذكر لدولة القانون والمؤسسات مع وجود تفسيرات متناقضة للمواد القانونية التي وضعت بصورة ملتبسة وتحمل تفسيرات لا حصر لها.

نتيجة ذلك، أصبح الفساد سياسة رسمية على حد قول الدكتور سليم الحص الذي ابتدع لتوصيفه مفهوما نظريا خاصا هو ldquo;ثقافة الفسادrdquo;. فولدت عبره قوى اجتماعية وسياسية ذات مصلحة أكيدة في تغييب الدولة المركزية القوية والعادلة، والإبقاء على شكل من السلطة الرضائية التي تقوم على الاتفاقيات الجانبية، والمساومات الفوقية بين زعماء الطوائف والميليشيات.

وليس من شك في أن هذه الحالة المرضية المستعصية تهدد بمحو التضحيات الهائلة التي قدمها اللبنانيون في صراعهم الرائع والبطولي مع ldquo;إسرائيلrdquo;. فبقاء ذهنية الميليشيات، والجمع بين الزعامة الميليشياوية والطائفية تمنع بناء دولة المؤسسات والقانون، وتضع المجتمع اللبناني على حافة أزمات داخلية لا حصر لها. علما أن النظام الديمقراطي بحاجة إلى نصوص قانونية واضحة وصريحة.

والأهم من ذلك أن دولة القانون بحاجة إلى قوى تحمي عمل المؤسسات، وتفرض عقوبات صارمة على كل من يتجاوز القانون أو يحدث خللا في النظام العام.

إن ممارسة الديمقراطية على طريقة زعماء الطوائف في لبنان جعلت منها مجرد شكل أجوف يضمن حرية الحركة والكلام والتعبير عن الرأي. إلا أن تلك الممارسة بقيت عاجزة عن فرض رقابة صارمة على ذهنية الميليشيات، ومعاقبة الفاسدين والمفسدين.

ودلت الأزمة الحكومية التي يعيشها لبنان منذ استقالة الوزراء الستة مؤخرا على أن النظام الديمقراطي فيه يشهد حالة انفصام بين النظرية والتطبيق. فرجال الحكم فيه هم ظاهريا رجال دولة ومؤتمنون على الدستور وسلامة المؤسسات القانونية. لكنهم، في الممارسة العملية، أثبتوا مرارا أنهم يمثلون مصالحهم الشخصية وطوائفهم.

إن ما يحتاجه لبنان هو نظام ديمقراطي حقيقي يتجاوز الأطر الطائفية والميليشياوية، ويضع حدا لتدخل سلطة المال في تشويه الحياة السياسية والبرلمانية. وما لم يبادر اللبنانيون إلى بناء دولة القانون والمؤسسات على أسس ديمقراطية سليمة فإن أزمة الحكم التي انفجرت مؤخرا بسبب التوقيع على مسودة المحكمة الدولية عرضة للتكرار، وبصورة أكثر حدة خلال السنوات القادمة. مرد ذلك إلى هشاشة النظام السياسي اللبناني التي تسمح لزعماء الطوائف فيه باستدراج عروض للتدخل الإقليمي والدولي، لضمان مصالحهم الشخصية والطائفية، وعلى حساب سيادة لبنان واستقلاله. وليس ما يشير إلى أن لبنان قادر على تجاوز أزماته في ظل هذا النوع من القيادات السياسية التي لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الوطنية، ولا تؤمن بإدارة الصراع بالطرق السلمية وبما لا يهدد وحدة لبنان واللبنانيين التي هي الشرط الأساسي لبقاء وطنهم حرا ومستقلا.