الأربعاء: 2006.11.22
د. محمد السيد سعيد
نشرت صحيفة quot;الواشنطن بوستquot; ملخصاً عن تقرير للجنة معينة من وزارة الدفاع الأميركية quot;البنتاجونquot; لوضع خيارات بديلة في العراق. وتفتق عقل اللجنة عن ثلاثة خيارات رئيسية هي؛ أن تبقى القوات الأميركية بأعدادها ونوعيتها الحالية في العراق وتقاتل لفترة طويلة حتى تحقق النصر! أو أن تضاعف الولايات المتحدة حجم القوات إلى عدة مئات من الآلاف, أو ببساطة أن تنسحب على الفور. ورأت اللجنة أن الخيارين، الثاني والثالث، غير مناسبين، وأن الخيار الذي توصي به هو مزيج من البدائل؛ تشمل إتاحة قوات إضافية بين 20و30 ألف جندي لفترة انتقالية مع تغيير مهمة القوات لتركز على تدريب القوات العراقية وتخفيض تعرضها القتالي.
ولا شك في أهمية هذا التقرير، لأنه يصدر عن وزارة الحرب الأميركية. ولكن عندي شكوكا كثيرة حول سلامة التفكير أو على الأقل وضوح الرؤية لدى quot;البنتاجونquot;. إذ تثير الاختيارات المطروحة استغراب أي مراقب أو دارس للشؤون الاستراتيجية، لأنها لم تتحدث عن الأهداف السياسية ولا المعادلات السياسية الواقعية التي يمكن تحقيقها من وراء كل خيار, وبدا الأمر وكأن الخيارات العسكرية تسبح في فراغ سياسي, وهو خطأ كبير في أية مقترحات عسكرية. وتثير هذه الأفكار أيضاً استغراب المراقب السياسي والاستراتيجي لأنه من الغريب أن يرسل quot;البنتاجونquot; للعراق قوات إضافية مع تغيير مهمتها في الوقت نفسه. عدا أن المشكلة هي في ضعف القدرات القتالية للقوات الأميركية وليست في ضعف دورها التدريبي. والأهم هو أن التدريب طوال الأعوام الثلاثة الماضية لم يسفر عن تشكيل جيش عراقي يتمتع بقدرات قتالية كبيرة. وتتجاهل لجنة quot;البنتاجونquot; الأسباب الكامنة وراء هذه النتيجة، وأهمها ضعف الحافز السياسي وغياب أو تشوه العقيدة العسكرية, وانعكاس الصراعات الطائفية والفوضى السياسية على تكوين وأداء وانضباط الجيش الجديد. وكانت تقارير سابقة لـquot;البنتاجونquot; قد أشارت إلى أنه لا يمكن ضمان الجاهزية القتالية المستقلة للجيش العراقي الجديد قبل عدة سنوات. فإذا كان ذلك صحيحاً فإن التوصية بزيادة القوات الأميركية مع إبعادها عن العمليات القتالية لن يكون من الناحية الفنية غير تمهيد لكارثة عسكرية مشابهه لكارثة القوات الأميركية في سايجون عام 1975.
وبتأمل الاختيارات المطروحة في ورقة quot;البنتاجونquot; يسهل على أي مراقب أو باحث حول تحليل الخطاب، أن يستنتج أن جوهر التوصيات التي وضعتها اللجنة هي سحب القوات الأميركية, وأن ما يسمى بالخيار المركب ليس غير تغطية لقرار الانسحاب مع محاولة تجنب تداعياته العسكرية المباشرة، لأن إعلان الانسحاب يشجع الخصوم على استنزاف القوات الأميركية في مرحلة الإعداد للانسحاب، بما تعنيه من تدهور المعنويات واضطراب التنظيم العسكري.
وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فأول ما يرد على الذهن هو أن quot;البنتاجونquot; فكر في السياسة الأميركية نحو العراق دون استشارة الدول العربية المحيطة والتي تتأثر بشدة بالتقلبات العسكرية والسياسية في العراق, وعلى رأسها دول الخليج, وأن الإدارة الأميركية ستكون قد زجت بنفسها وبالعراق وبالدول العربية المحيطة، في وضع شبه يائس ودون أن تضع مصالح هذه الدول في الاعتبار, بل ستكون قد فاجأتها بوضع بالغ الصعوبة دون أن تكلف نفسها مجرد جهد دعوة هذه الدول لتحضير نفسها وصنع سياسة أو استجابة لهذا الوضع.
الوضع في العراق بعد الانسحاب الأميركي قد يشمل كل أو بعض النتائج التالية:
أولاً: الاعتراف بسقوط العراق كله أو بعضه في دائرة النفوذ الإيراني, بدرجة أكبر بكثير من الوضع الحالي. ففي سياق حرب أهلية، لن يكون أمام المنظمات السياسية الشيعية سوى الاستعانة بدعم قتالي مباشر من إيران للوقوف أمام زحف خصومها من المنظمات العسكرية السنية. وفي الحد الأدنى، قد تكتفي الأولى بإعلان تشكيل دويلة مستقلة في الجنوب ترتبط بإيران ارتباطاً شديداً, وهو ما يضاعف من نفوذ إيران بدرجة كبيرة على حساب توازن القوى الهش في الخليج.
ثانياً: الاعتراف بسقوط العراق كله في فوضى أمنية وسياسية تشمل حروباً أهلية زاحفة أو داهمة، وهو ما يضاعف من المشكلات الأمنية في منطقة الخليج كلها.
ثالثاً: احتمال نشوء دويلة سنية في الوسط تتبنى أيديولوجيا جهادية متطرفة (على حساب المعاني العظيمة للجهاد في الإسلام وقيم الإسلام الكلية) قد تقوم بتصدير العنف من العراق إلى الدول المجاوره عموماً، وعلى رأسها دول الخليج.
رابعاً: احتمال دخول قوات تركية أيضاً إلى الشمال العراقي، وخاصة لو قرر الأميركيون أن يشمل الانسحاب المنطقة الشمالية في إطار عملية انسحاب شاملة أو إعادة نشر للقوات الأميركية خارج العراق وفي أراض قريبة منه أو في مياه الخليج. وقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى حرب إقليمية مباشرة أو غير مباشرة في الأراضي العراقية، تشمل في الحد الأدنى كلاً من إيران وتركيا, وهو ما سيفضي إلى اضطراب شامل في الوضع الإقليمي.
ولا شك أن دول الخليج- مع النظام العربي ككل- ستخرج خاسرة من هذه العملية كلها. ولكن هل يعني ذلك أن على الدول العربية أن تدعو لوقف الانسحاب الأميركي من العراق؟ سيكون ذلك بالطبع كارثة أخلاقية ومعنوية. وقد تحاول بعض الدول العربية وخاصة في الخليج إقناع الإدارة الأميركية بوضع سياسة للانسحاب المسؤول: بحيث تستقر معادلات سياسية تفاوضية جديدة وواقعية ولا يترك العراق في مهب الريح ومعه أمن واستقرار المنطقة ككل. غير أن الاندفاع الأميركي للانسحاب، قد يكون أقوى من إمكانية إيقافه وتنبيهه للتفكير بمسؤولية فيما يتعلق بمصير العراق وأمن دول الخليج.
فأمن دول الخليج والأمن العربي عموماً يجب أن يكون بيد العرب. ومن المذهل حقاً أن الدول العربية الكبيرة لم تضع أية استراتيجية تجاه العراق. وقد تجد نفسها بين خيارين كلاهما أكثر مرارة من الآخر؛ الأول هو تحمل تبعات الغزو الأميركي للعراق، بكل ما يمثله من كارثة رهيبة على الشعب العراقي وعلى الأمن القومي العربي. وهنا نتذكر أن بعض المفكرين الأميركيين أوصى الإدارة بأن تستخدم ورقة الانسحاب أو التهديد به لإجبار الدول العربية، وخاصة دول الخليج، على تحمل تبعات إنقاذ المشروع الأميركي في العراق. وقد يكون هذا الهدف وراء نشر ملخص تقرير لجنة quot;البنتاجونquot; على الملأ في quot;الواشنطن بوستquot; يوم الاثنين الماضي.
أما الخيار الثاني فهو أن تتولى بنفسها مسؤولية الدفاع عن مصالحها الأمنية والاستراتيجية في العراق بعد الانسحاب الأميركي، وخاصة إذا وقع تدخل عسكري إيراني وتركي. وفي هذه الحالة سيكون إنشاء حضور عسكري بدون استعدادات مسبقة، أمراً بالغ الصعوبة وقد يؤدي إلى تورط غير فعال أو في الحد الأدنى قد يؤدي إلى تورط لصالح جماعات سنية بالغة التطرف والعنف, وتعويم صيغة سياسية غير مقبولة من جانب التيار الرئيسي في الثقافة العربية الإسلامية.
لا يزال التفكير في البدائل غائباً وهو أمر يصدم أي مراقب عربي أو حريص على المصالح العربية الجوهرية. ويجب أن يكون هذا البديل توازنياً وواقعياً وقابلاً لحشد أكثر العراقيين خلفه. ولكن قبل كل شيء، يجب أن يتمتع بالمصداقية والجدية اللازمة حتى يثق فيه العراقيون والعالم.
التعليقات