رضوان السيد


جاء قتل الوزير والنائب بيار أمين الجميل يوم الثلاثاء الماضي مفاجئاً ومعبِّراً في الوقتِ نفسه. مفاجأته، لأنّ ابن رئيس الجمهورية الأسبق، ليس معروفاً بالراديكالية في التوجُّه، ولا بالعداء الكبير لطرفٍ أو جهةٍ في الجوار أو في لبنان. صحيحٌ أنه من تيار 14 آذار، وأنه شديدُ النقد للرئيس لحود وللجنرال عون؛ لكنه يركِّز في المدة الأخيرة على إعادة بناء حزب quot;الكتائبquot; بعد أن ضعُفَ في سنوات الوصاية السورية، وهو لا يتقدمُ عل والده الرئيس بل يقف تحت لوائه في اجتماعات 14 آذار، وفي الاجتماعات الكتائبية والمسيحية. ومع ذلك فقد كان هذا القتلُ معبِّراً، لأنه -باستثناء الرئيس رفيق الحريري- كان السابع أو الثامن.. أو العاشر، بين المسيحيين البارزين الذين قُتلوا لأسبابٍ سياسية خلال العام ونصف العام الماضيين. وجاء قتله معبِّراً أيضاً لأنه يعني عودةَ مسلسل الجريمة السياسية إلى لبنان، والذي لم يتوقف منذ حوالي الثلاثين عاماً، وإنما تراجعت الأعدادُ في التسعينيات من القرن الماضي، حينما استتبت السيطرةُ للنظام السوري في لبنان. والمُلاحظُ أنه باستثناء الرئيس رفيق الحريري أيضاً وأيضاً، ما انصبّت أحداثُ الجرائم في السنتين الماضيتين على رجالات الصفِّ الأول؛ بل تناولت مسيحيين من الصفين الثاني والثالث. وهذا لُغْزٌ لستُ أدري كيف يمكن تعليله أو فَكُّ معمَّياته.

بيد أنّ المفاجأةَ الأكبر في ظروف الجريمة وسياقاتها. إذ منذ الأسبوع الثالث لحرب تموز، بدأ التراشُقُ الإعلامي والسياسي بين الطرفين السياسيين البارزين: 8 آذار، و14 آذار. فريق 14 آذار أظهر تذمُّراً وتملمُلاً من انفراد quot;حزب اللهquot; بقرار الحرب ضدَّ إسرائيل، ومن تهديداته المستمرة بالانقلاب على كلّ شيء إن لم يسكُت الجميع، ويعاونوه في حربه quot;دفاعاً عن لبنانquot;، والتي شَرَّفت اللبنانيين والعرب والمسلمين، وجعلت من لبنان quot;قوةً إقليميةquot;. أمّا فريق 8 آذار، فقد بدأ انتقاداته لأطراف 14 آذار باعتدال، من مثل النعي عليهم عدمَ الاندفاع في التأييد، والاستمرار في التخوف من سلاح quot;حزب اللهquot;.. وصولاً إلى اتهام quot;فريق السلطةquot;، بالتواطؤ مع الأميركيين. والإسرائيليين، وتعمُّد الإهمال في إعادة الإعمار -فالمطالبة بالثلث المعطِّل في الحكومة اللبنانية لحليفهم الجنرال عون، وإلى استقالة وزراء الشيعة الخمسة عندما حضر إلى مجلس الوزراء اللبناني مشروع المحكمة الدولية بقتل الرئيس رفيق الحريري. ثم جاءت أحاديث السيد حسن نصرالله ومحازبيه، وأحاديث الجنرال ميشال عون بشأن النزول إلى الشارع، لإسقاط الحكومة المتزعزعة، والإصرار على الانتخابات المبكِّرة.

إنّ المفاجأة الغريبةَ هنا أنّ الاغتيال في وَضح النهار جاء في وقتٍ كانت فيه حكومة الرئيس السنيورة مشلولة، ومشكوكٌ في دستوريتها، وأعضاء في مجلس الأمن يطالبون اللبنانيين بالتوافق على المحكمة قبل موافقة مجلس الأمن على المشروع. والمزاج العامّ يطالبُ الرئيس السنيورة وحلفاءه بالتنازُل بعض الشيء لـquot;حزب اللهquot; وحلفائه حفظاً للسلم الأهلي، واسترجاعاً للفريق الشيعي إلى الحكومة. أي أنّ الظروف كلَّها كانت في صالح فريق 8 آذار الذي كان مستعداً للنزول يوم الخميس إلى الشارع بأعداد هائلة. وهكذا فقد جاء الاغتيالُ ليعيد التوازن إلى الموقف ولصالح 14 آذار: عشية الاغتيال وافق مجلس الأمن على مشروع المحكمة غير آبهٍ باعتراض رئيس الجمهورية، كما أدان اغتيال بيار الجميل. وتوقفت مجموعات 8 آذار وعلى رأسه quot;حزب اللهquot; عن النزول للشارع. وقويت حكومة السنيورة بحيث اجتمعت يومَ أمس (السبت) وحوَّلت مشروع المحكمة إلى مجلس النواب، أي أنها رمت تلك الكُرة المشتعلة في حضن الرئيس نبيه بري. واستطاعت جماعة 14 آذار جمع مليون نسمة في ساحة الشهداء كما حدث مرتين من قبل، وذلك بمناسبة تشييع الوزير بيار الجميل يومَ الخميس الماضي. كلُّ الجرائم السياسية السابقة اتُّهمت بها سوريا، وما أمكن لها الدفاعُ عن نفسها بإقناع. وهذه الجريمةُ اتُّهمت بها سوريا أيضاً، قياساً على السابق أو السوابق. لكنّ هذه الجريمة بالذات أضرَّت بسوريا وأنصَارها ضرراً بالغاً في الظاهر، وما رأى كثيرون مصلحةً لها فيها، في هذا الظرف بالذات. فالجنرال عون خسِر المسيحيين تماماً. والبطرك الماروني صلّى على الفقيد بنفسه، واتّهم الذين قتلوا بيار الجميّل بمحاولة منع المحكمة الدولية. وما عادت لـquot;حزب اللهquot; حُجةٌ في تمنُّعه ومخاصمته واتهامه لقوى السلطة، كما قال مراراً. وبسبب هذه الأضرار الظاهرة (كما سبق القول) سارع مراقبون (عقلانيون) لاتهام جهةٍ ثالثةٍ أو رابعةٍ بالجريمة، بل إنّ منهم من اتّهم إسرائيل، وعادت الأصواتُ عاليةً داعيةً لتنحِّي لحود حليف سوريا، ولتهديد quot;حزب اللهquot; وابتزازاته.

الذين اتهموا الجانب السوريَّ وحلفاءَه ركّزوا على الأمور التالية. 1) إرادة إضعاف حكومة السنيورة سعياً لإسقاطها بالتخويف من جهة، وبتقليل أعداد الأكثرية التي تملكُها في مجلس الوزراء. وإرادة إضعاف 14 آذار عن طريق تقليل أعداد نوابها في البرلمان (أكثريتها بالمجلس سبعة نواب وقد صاروا ستة).

2) إرعاب المسيحيين حلفاء 14 آذار، ودفعهم للاعتكاف أو التراجُع، إذ إنَّ كلَّ من سقطوا منهم ومن شبَّانهم والبارزين فيهم. وقد حدث في الواقع عكس ذلك؛ إذ إنهم سارعوا وعلى رأسهم البطرك الماروني للتأكيد على أنهم سيبقون مع المحكمة لإحقاق الحقّ، وفرض العدالة. وردَّ سعد الحريري التحية بأحسن منها عندما قال في كلمته بساحة الشهداء: إن رفيق الحريري مسلم سُني، وإنّ بيار الجميل مسيحي ماروني، وهذا يُثبتُ أن الوحدة الوطنية متحقِّقة، وأن الأكثرية ليست وهْماً. وكان بذلك يشير إلى تحالُفٍ سُني/ ماروني أو مسيحي، لن ينفصم.

3) الإظهار بما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أنّ اللبنانيين من أعداء سوريا لن يرتاحوا حتى تتحسّن العلاقةُ مع سوريا، ويخضعوا لمشيئتها.

4) إظهار الإصرار على منع المحكمة الدولية، بنشر الاضطراب في لبنان. وقد أعلنت سوريا التوقُّف عن التعاوُن مع التحقيق الدولي على أثر الاغتيال مباشرةً.

ويضيفُ أنصارُ هذه الرؤية أنّ النظام السوريَّ يرى الآن خَطْبَ وُدِّه رجاء معاونته للولايات المتحدة وحلفائها في العراق وفلسطين. ولذلك فقد تكونُ تلك التقارُبات قد جرَّأتْهُ على متابعة مسلسل الاغتيالات الذي بدأ بالوزير مروان حمادة قبل مقتل الرئيس الحريري، وما يزال مستمراً.

ماذا يحدث بعد الاغتيال المروِّع؟ فريق 14 آذار أظهر تصميماً على المحكمة الدولية، وطالب رئيس مجلس النواب نبيه بري بعقد المجلس من أجل إقرار مشروع المحكمة وتصييره قانوناً أو معاهدةً بين لبنان والأمم المتحدة. كما عاد لوضْع مسألة إسقاط رئيس الجمهورية على سلَّم الأَولويات بعد المحكمة. وأقبل الرئيس السنيورة على مطالبة وزراء الحزب والحركة المستقيلين بالعودة إلى مجلس الوزراء، وجدَّد أعضاء في 14 آذار الدعوة للحوار بزعامة الرئيس نبيه بري، رئيس مجلس النواب. أما quot;حزب اللهquot; فلم يقل الكثير؛ لكنّ الجنرال عون والرئيس كرامي والوزير السابق سليمان فرنجية، ذهبوا إلى أنّ التظاهر لإسقاط الحكومة، وفرض الانتخابات المبكّرة، ما أُلغي ولكنه تأجَّل!

أما الواقع فهو أنّ الأزمة السياسية تفاقمتْ. ولن تستطيع حكومة السنيورة الاستمرار إن استمر إضرابُ وزراء الحزب والحركة. وقد ازداد الضغطُ على لحوّد بالفعل، لكنّه لن يستقيل طبعاً الآن. وليست هناك طريقةٌ دستوريةٌ لإسقاطه. ويستطيع المتحاورون (إن رجعوا للطاولة) التوافق على انتخاباتٍ مبكِّرة للرئيس؛ لكنّ الأمر يبدو بعيداً الآن. ولذلك يظهر أنه لا مخرجَ إلا بالعودة لطاولة الحوار؛ في محاولةٍ لصياغة توافقات تتعلقُ بتوسيع الحكومة؛ وقد يمتدُّ البحثُ إلى رئاسة الجمهورية عندها، أي بعد عودة الوزراء الشيعة لحكومة السنيورة. قد يكون موضوع المحكمة عسيراً على قبول سوريا وحلفائها في لبنان لكنّ الأعسر منه التنازلُ عن المحكمة والتأجيل من جانب الرئيس السنيورة، وتيار المستقبل. وهكذا فقد صارت رهاناتُ سائر الأطراف معروفة. بيد أن غير الواضح فعلاً: اغتيال الوزير بيار الجميل في هذا الظرف. إن من حق كل لبنانيٍ أن يضع السيناريو الذي يلائمه لفهم ما يجري؛ لكنْ من حقه أيضاً التساؤل عن زمان توقف القتل، كما أنّ من حقّه أيضاً الخوف على مستقبله ومستقبل أولاده، في زمن الظلام والاغتيالات هذا. لا حول ولا قوة إلا بالله.