الثلاثاء: 2006.11.28
حلمي شعراوي
من بين موجة الانتخابات اللافتة والمثيرة للدهشة والتأمل في أميركا اللاتينية وأفريقيا، والعالم العربي نفسه في الفترة الأخيرة، يظل ما يحدث في موريتانيا من أكثرها إثارة. ففيها لا يتوفر التاريخ الشعبوي الذي يتحرك بوطنية عارمة كما في أميركا اللاتينية، ولا تاريخ العنف الطامح لقدر من الاستقرار في أفريقيا، وإنما هو تراث الشمولية العربية والمنتج الصراعي الذي لا ينفد على ساحتنا، سياسياً وطائفياً واجتماعياً. ومع ذلك يظل ما يحدث في موريتانيا موضع تأمل العرب والأفارقة على السواء. فالنخب الحاكمة العربية قد يقلقها انسحاب العسكر الذي تمثله التجربة الموريتانية في الانتخابات الأخيرة على الأقل -وهم صلب الأمان في معظم النظم القائمة لحماية الاستبداد العربي المتأصل- حيث امتنع جميع أعضاء quot;المجلس العسكري للعدالة والديمقراطيةquot; الذي جاء للسلطة في موريتانيا بانقلاب أغسطس 2005 عن المشاركة في العملية السياسية القائمة كأشخاص أو كتنظيم، كما أنهم بوجه عام صدقوا ما وعدوا به بالإقدام على خطوة الانتخابات حسنة السمعة في وقتها وبتأكيدات حتى الآن ألا يتقدم أحدهم لانتخابات الرئاسة في ربيع 2007. وهذه ظواهر غير متكررة إلا في تجربة عربية أفريقية خاصة -هي السودان 64- 1985. والنخب الحاكمة الأفريقية -بدورها- تخشى التغيير بهذه السلاسة بخطوات تتجاوز -في دستور واضح وقابل للاستمرار- التغيرات الجهوية أو الطائفية والعرقية، بعد أن كانت موريتانيا رمزاً لحكم الأعراق العربية المستبدة بأحوال الزنج وquot;الحراطينquot; في المناطق الخصبة في حوض السنغال، في معارك كانت شبيهه بما يجري في عدة بلدان بالصحراء الكبرى، فضلاً عن تجسدها في مغارب السودان وجنوبه. وحتى التيارات الإسلامية التقليدية تبدو متفهِّمة لأهمية ما قد يثيره النموذج الموريتاني الحالي من سوابق أمام فرصهم المستقبلية، فلم يلجأوا، في هذه الظروف؛ بقوى quot;الصوابquot; أو قوى quot;السلفيةquot; المعروفة في الساحة، إلى موجات من استعراضات القوة على نحو ما حدث في الجزائر أو يحدث في المغرب، وهي مناطق مجاورة ومؤثرة في الساحة الموريتانية نفسها. وتكشف تصريحات جميل ولد منصور منسق الحركة الإسلامية عن روح الطمأنة هذه بشكل أو آخر. وحتى الآن، فإن النتائج المعلنة لجولة الانتخابات في نوفمبر 2006 لا تكشف كل الأوراق، فمازال بين الدوائر الخمسة والتسعين أكثر من 50% لم تعلن نتائجها، لكن المألوف أن تكشف نتائج العواصم والحضر عموماً عن طبيعة المكاسب والخسائر، بصرف النظر عن غلبة الريف أو المناطق القبلية والرعوية. وهنا يوفر ما أعلن في نواكشوط ونواذيبو ومناطق الترارزة أو فيما عرف من مناطق الجنوب غرباً أو شرقاً أو من الشمال، ما يشير إلى بعض الملاحظات المهمة في الخريطة السياسية الموريتانية:
* فثمة كتلة المعارضة الاحتجاجية التقليدية في مختلف هذه المناطق ويمثلها quot;تكتل القوى الديمقراطيةquot; الواسع القاعدة شعبوياً منذ معارضته للرئيس السابق، بقيادة quot;أحمد ولد داداهquot; محصناً بالتأريخ السياسي القديم وبخبرته كاقتصادي، وبكده في التصدي لحكم quot;معاوية ولد الطايعquot; السابق على الانقلاب، ومع ذلك فإنه يبدو متوقفاً عند نسبة الثلث التي كان يحصل عليها حتى ولد الطايع، ممثلة الطبقة الوسطى والبيروقراطية وعناصر مناطق التوتر في الجنوب الغربي قرب السنغال.
* لكن ثمة قوى جديدة لم يتحْ لها الظهور على الساحة الرسمية التشريعية من قبل سواء لتمثيلها ألوان الطيف الشعبية المتواضعة أو بعض ألوان الجلد السوداء، ممن أصبحوا يشكلون quot;الخلطةquot; الواسعة شعبياً، والتي تعاني آثار السياسات الاقتصادية quot;التكيفيةquot; الفاشلة عموماً، ويمثلهم بدرجة أو بأخرى quot;التحالف الشعبي التقدميquot; بقيادة quot;مسعود بلخيرquot; الذي لا يقدم في نفس الوقت برنامجاً جذرياً بقدر دفعه لقواعد شعبية منسقة نسبياً إلى ساحة المطالب الاقتصادية العادلة. ولذا تعلن النتائج الأولية عن حضور جزئي أيضاً لهذا التحالف.
أما القوى التي حجبت عنها النظم الموريتانية المتوالية أضواء المشاركة والشرعية، فهي التي يمثل حضورها الآن جوهر شرعية ومصداقية التوجه الجديد في الحياة الموريتانية، بما يصعب توقعه، فهي تحت أسماء quot;القوى الديمقراطيةquot; وتحالف quot;العدل والديمقراطيةquot;، أو quot;الوحدة والتغييرquot; أو quot;الحرية والمساواةquot;. وتجمع هذه القوى شتات المطالب الزنجية (الاجتماعية) من ناحية، تقابلها قوى quot;بعثيةquot; وquot;ناصريةquot; عروبية، بل وأصوليون إسلاميون ممن استبد بهم quot;ولد الطايعquot; لفترة طويلة مما سيجعلهم quot;قوة تصارعquot; مقلقة للأوضاع quot;الليبراليةquot; التقليدية القادمة في غياب حركة تغيير شاملة وسط المجتمع السياسي quot;الموريتاني الجديدquot;. بل وقد يقلل ذلك من مساهمتها الفعلية حتى في تحالف quot;شعبويquot; جديد بدلاً من الحلف quot;الديمقراطيquot; التقليدي بقيادة أحمد ولد داداه، الذي لا يحمل مثل هذا البرنامج التغييري، وهو ابن التحديثية الفرنسية، بل والدوائر المالية العالمية.
* وبين هذه القوى المؤسسة في التاريخ الموريتاني القريب، يزحف من يسمون بـquot;المستقلينquot; ليشقوا هذه التحالفات المتوقعة للحكم القادم بإتمام الانتخابات في الثالث من ديسمبر 2006. ورغم أن quot;المستقلينquot; هي كلمة السر لدفع بعض القوى الإسلامية في بعض النظم التي تحكم قبضتها على الحكم، فإنها في موريتانيا، تصبح قناة لعناصر أخرى يفرضها الموقف، وهي عناصر الحكم السابق وحزبها quot;الجمهوريquot; الذي يجد صعوبة في كشف أوراقه، عبر العسكر المتنفذين، أو البيروقراطية الموالية، ممن سيكون لهم وزن بالضرورة في أية تشكيلية للحكم القادم إزاء حرص المجلس الحاكم حالياً على تقديم بعض رسائل الأمان للعسكرتارية التقليدية، التي تخشى زحف السياسيين الجدد، وللرأسماليين الفاسدين الذين بات ظهورهم يدفع الشارع للتعبير عن إحباطه من احتمالات التغيير الفعلي أو الاطمئنان لخطوات الرئيس؛ مدير الأمن الوطني السابق، العقيد اعلى ولد محمد فال، بل ويدفع البعض إلى اتهامه أو رفاقه بدعم عدد من المستقلين ليشكلوا أداة لاستمرار أوضاع سابقة ولطمأنة مختلف قوى الداخل والخارج بأن لـquot;الديمقراطية حدوداًquot; أمام quot;بيزنسquot; الثروة السمكية الهائلة، وشراء الأراضي في حوض السنغال، بما يجعلهم بالمرصاد لكل نزوع متجذر عروبياً أو إسلامياً أو حتى طائفياً حيث تسمى quot;المطالب الاجتماعيةquot; نفسها في موريتانيا طائفية أو عرقية، وحيث يتكرر صراع العروبة والأفريقية مثلما هو الحال في دارفور على نفس الأساس الثقافي والاقتصادي.
ولو أن الخريطة محلية الطابع على هذا النحو، لهان أمرها، ولتركنا تأملها للمستقبل القريب، حيث تأتي التفاعلات بما تفرزه طبيعة مثل هذا المجتمع الذي يضم عرباً وأفارقة، بداوة وزراعة، أسماكاً وحديداً وذهباً، وكلها بقدر من الجدية المؤثرة، وتأتي فوق ذلك ثروة بترولية تدفقت فجأة منذ أوائل العام (بعد اضطرابات محيطة ببترول الشرق الأوسط)! تدفع بموريتانيا إلى منزلة متقدمة بين البتروليين في بضعة أعوام ومن الآن! وهي أمور دفعت مبكراً إلى تساؤلات حول quot;انقلاب القصرquot; الذي تم العام الماضي، وحول التطور السلمي الذي يأمل الجميع تحقيقه، بل وحول علاقات موريتانيا الأمنية؛ الدولية والإقليمية! لاشك أن النضال الديمقراطي للشعب الموريتاني جدير أن يقف وحده إلى حد كبير لتفسير التفاعلات التي تجري على أرضه، ولكننا في زمن العولمة الطاغية لا نستطيع أن نتوقع بهذا القدر من التسامح مع تفاعلات كافة العوامل والقوانين، أو نتجاهل بأية عاطفية تلك العوامل المتحركة من حول شعب تحيط به ظروف ضاغطة نشهد مآسيها ممتدة من دارفور، لتشمل كل الصحراء الأفريقية الغربية حتى تصل موريتانيا بالتأكيد.














التعليقات