ظـاهـرة تخـريب فعـالـيـاتـنا ومهرجاناتنا الثقافية من قبل فئة لا تمثل إلا نفسها، والتي باتت تتكرر كثيراً في سنواتنا الأخيرة، لا يمكن تجاوزها وغض النظر عنها كل مرة. فأفراد هذه الفئة الخارجة عن المبادئ العامة لن يرعووا إلا بوقفة حازمة وموقف صلب يعيدهم إلى رشدهم الذي فقدوه بمجرد أن اعتقدوا أنهم اللاعبون الوحيدون في ساحة مجتمعنا المتعدد الثقافات.
هم يعتقدون أن كل صوت غير صوتهم رجس من عمل الشيطان، وكل فعالية لا تقام تحت مظلتهم منقوصة الأهلية، ويتعاملون مع المختلفين معهم بمبدأ الوصاية.
هذه ليست مشكلتهم بالطبع، فكل تيار أو فكر معين يسعى للهيمنة على بقية فرقائه، ويحاول بشتى الطرق الشرعية وغير الشرعية البقاء على رأس الهرم الاجتماعي كي يحرك المجتمع يميناً أو شمالاً بما يتماشى مع مصلحته الخاصة. والمصالح الخاصة لهؤلاء القوم لا يمكن إحصاؤها في مقالة من 800 كلمة!
المشكلة تتمثل في سكوت الأغلبية المسلمة الصامتة، التي تركع وتخضع كلما دخلت في سجال مع هذه الأقلية التي تريد أن تجعل منا قطيعاً سياميّاً متشابهاً لا يدري من أين أتى ولا إلى أين يمضي!
ربنا الله وربهم الله، ديننا الإسلام ودينهم الإسلام، نبينا محمد laquo;صلى الله عليه وسلمraquo;، ونبيهم محمد laquo;صلى الله عليه وسلمraquo;، نشهد أن لا إله إلا الله ويشهدون أن لا إله إلا الله، نصلي ويصلون، نصوم ويصومون، نحج ويحجون، نزكي ويزكون، فلماذا نلتزم الصمت كلما تصدوا للحديث؟ ولماذا نكَرّس الفكرة الشائعة التي تقول إنهم أقرب إلى الله منّا، لمجرد أنهم التزموا بزيٍ معين، وآمنوا بأفكار سوداوية تجاه مجتمعاتهم التي يعيشون فيها؟
نحن أغلبية لها حضورها الفاعل إن شاءت، ولها كلمتها العليا إن أرادت، والأغلبية في أي مجتمع هي الراسمة للحاضر والمخططة للمستقبل، فلا يصح أبداً في أي مجتمع laquo;سليم من الأمراضraquo; أن تقود الأقليّة laquo;أي أقليّةraquo; الواقع الاجتماعي فيه.
كل ما يجب علينا فعله بدءاً من اليوم هو مقارعة الحجة بالحجة، وسل الرأي في مقابل الرأي، والحضور بأعداد كبيرة إلى منتدياتهم، وتنبيههم إلى أخطائهم في الفهم وأخطائهم الاجتماعية وإعلامهم laquo;بطريقة لا تجرح مشاعرهمraquo; بأنهم ليسوا شعب الله المختار، وإن فهم الدين الإسلامي العظيم ليس حكراً على فئة معينة ومذهب وحيد. ويجب أن نتأدب في طريقة حوارنا معهم، فلعلهم إن رأوا الفرق الكبير بين طرقنا الحضارية في فن الحوار وبين طرقهم الهمجية والإقصائية، لعلهم إن رأوا ذلك تلين قلوبهم ويصبحون أكثر استعداداً للعودة إلى طريق الصواب.
يجب أن نجهر بأصواتنا لنتبيّن حقيقة عددنا، وبالتالي نقود المجتمع إلى الحالة الوسطى التي لا إفراط فيها ولا تفريط.
ويجب قبل ذلك أن نهدم ونعيد بناء بعض عاداتنا الاجتماعية التي أسهمت laquo;بشكل عميانيraquo; في تكريس مفهوم المطوع والمطاوعة وغيرها من المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي أصبحت مع الوقت نواة يلتف حولها أناس بصفات معينة ومحددة سلفاً لتكوين تنظيمات أشبه ما تكون بالأحزاب المنظمة.
فالتقدير الجمعي المبالغ فيه لكل من يظهر بشكل معين ويُظهر سلوكاً اجتماعياً محدداً، ووضعه في مرتبة عالية في المجتمع، يجعل منه laquo;حتى ولو كان غير ذي فكر أصلاًraquo; منظراً لا يقبل برأيٍ غير رأيه، ولا يسمع لحديث إلا إذا صدر ممن يشابهه في الشكل والملبس! وهذا يؤصل لمبدأ laquo;الإقصاءraquo; في فكره، وبالتالي يجعل منه حالة عدوانية لا اجتماعية تسير على قدمين في الشارع الذي يضمها ويضم الهندي المسيحي الذي يسهم في بناء بلدي، ويضم الأوروبية المسيحية التي تسهم في تطبيب أبناء بلدي، ويضم الشيعي الذي يشاركني في الدين وحق المواطنة، ويضم laquo;د. الغذاميraquo; الذي يسهم منذ عقود في تنوير عقول أبناء بلدي.
ما يحدث الآن من إقصاء للأصوات المتنوعة والثرية من أجل صوت واحد في ملتقياتنا الثقافية، يجب أن يدق ناقوس الخطر في أجنداتنا المستقبلية ويجعلنا نعيد ترتيب أولوياتنا الاجتماعية، لنتمكن من المضي بسلام إلى مستقبل مزدهر. نفعل ذلك وإلا وجدنا أنفسنا خارج منظومة التاريخ بعد سنوات قليلة.
وأنا هنا - كما قلت قبل قليل - لا ألوم هذه الأقلية التي تسعى جاهدة لفرض رؤيتها الأحادية ونظرتها للحياة على مجتمع بأكمله، بل ألوم الأغلبية التي تحرص على حضور الملتقيات الثقافية المتنوعة، فالتزامها الصمت أمام غوغائية هؤلاء الناس أمر لا مبرر له، بل هو تقهقر وتقصير وخيانة للعقل وللناس وللتاريخ وللوطن.
فعلى من يحضر للاستماع والاستمتاع بهذه الندوات والنشاطات الثقافية، الوقوف أمام هؤلاء بشدة والضرب على laquo;عقولهمraquo; وإفهامهم أن هناك أكثرية جاءت لتستفيد، وأن من يرفض مثل هذا الطرح يجب أن يغادر القاعة فوراً عملاً بقانون غلبة الأكثرية على الأقلية، إذا ما افترضنا أن الأكثرية والأقلية لهما أسبابهما التي لا تتنافى مع الشرع سواء في قبول الندوة أو رفضها.
أما إذا واصلنا فقط تناقل هذا النوع من الحكايات في كل منشط ثقافي يُقام عندنا كنوع من الإخبار وقلة الحيلة، فسنصل في وقت قريب وقريب جداً إلى مرحلة لا تعددية فيها، بل سيصل بنا الحال إلى أن نرى أن تمثيلنا الثقافي مقصور على نتاج أقلية فاعلة في ميدان تلتزم الغالبية الصمت فيه، وحينها لن يُسمح لنا حتى بالتصفيق إذا ما حضرنا المناشط الثقافية كتعبير عن إعجابنا، بل سنؤمر بهز رؤوسنا يمنة ويسرة والتلفظ بعبارات تُغذي الشعور العام بأحادية المشهد.
* إعلامي سعودي.
[email protected]