صبحي حديدي


كما صارت عدّته الأثيرة، وعادته المزمنة، منذ اتخاذ قرار غزو العراق، لجأ الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي معسول الكلام في توصيف مشهد كارثي ومأساوي ومتفجّر لا يجمّل عناصره إلا كاذب أو منافق أو بذيء أو متعام أعمي البصر والبصيرة. الفارق أنّ ذلك المعسول تدفق من فمه غير بعيد عن أرض الموت اليومي والتفكك ونذر الحرب الأهلية، من جانب أوّل؛ وتكتنفه، من جانب ثان، سياقات عراقية وعربية وإقليمية تكدّس المزيد من أسباب تنشيط اندلاع الحرب الأهلية بين الشيعة والسنّة في العراق؛ كما يتعالي، ذلك الكلام المعسول، في غمرة خطاب نقيض غير معسول البتة ينطوي عليه تقرير مجموعة جيمس بيكر ـ لي هاملتون عن العراق، الذي يصدر في السادس من الشهر وأماطت صحيفة نيويورك تايمز اللثام عن معظم توصياته.

وللمرء أن يضيف، كذلك، سياقاً رابعاً طريفاً بعض الشيء، هو المذكرة السرية التي سطّرها مستشار الأمن القومي الأمريكي، ستيفن هادلي، وأثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي (وتردد أنها كانت السبب في حرد المالكي عن الاجتماع الأوّل الذي كان مقرراً مع بوش والعاهل الأردني الملك عبد الله). والإنصاف يقتضي القول إنه ما من سبب يدعو هادلي إلي التحامل علي المالكي، ليس لأنّ الأخير كان ويظلّ رجل الاحتلال المفضّل في منصب رئيس الوزراء فحسب، بل لأنّ هادلي يسوق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل، بينها هذه مثلاً: صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، وثمة تقارير حساسة تشير إلي أنه يحاول مواجهة الهرمية الشيعية وفرض التغيير الإيجابي، إلا أنّ الواقع في شوارع بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلي فعل .

إذا كانت هذه حال رئيس الوزراء الممثل لكتلة الاغلبية البرلمانية المنتخَبة ديمقراطياً، تحت الاحتلال بالطبع، فما الذي يمكن أن تسير إليه قدرات الإرهابيين الذين يقودون مفارز الخطف والإعدام علي الهوية وإحراق البشر أحياء، أو قدرات الإرهابيين الذين يمارسون الجرائم ذاتها علي الطرف الآخر من الإنقسام المذهبي؟ وكيف يمكن للساسة، الذين يتغني المالكي بقدراتهم علي الحلّ والربط متناسياً أنه يقف علي رأسهم، جامعاً تمثيل السلطة التشريعية (بوصفه رجل الأغلبية البرلمانية) والسلطة التنفيذية في آن، أن ينجحوا في تربيع دائرة الدم الجهنمية هذه، إذا كانت الحال بأسرها تسير حثيثاً إلي الهاوية؟

وكيف لمعجزة كهذه أن تقع إذا كانت الحال الراهنة في العراق، حيث البون شاسع شاسع بين النوايا في القلوب وعلي الألسن، والجثث في الشوارع والقبور الجماعية، ليست طارئة ونتاج العنف غير المسبوق في الشهرين الماضيين (كما يحاول البيت الأبيض الإيحاء، وكما تردد بعده حكومة المالكي)، بل هي سيرورة متصلة مترابطة كما سيفكر أيّ عاقل. والمرء، سيما إذا مارس رياضة الربط بين الظواهر سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر، لكي لا نقول أسبوعاً بعد أسبوع، سوف يبلغ خلاصات جلية حول بدء تلك الحال ومسيرها ومآلاتها الراهنة، دون كبير للأسف الشديد، ورغم مأساوية ما يجري ويتفاقم ويتطوّر ويتفجّر.

خذوا هذه المفارقة الأولي في سيرورة الارتباط المدهشة بين اليوم والأمس القريب في واقع الحال العراقية الراهنة: ما هي آخر مهمة عراقية تولاها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر، قبل مشاركته الراهنة في ترؤس مجموعة دراسة العراق مع السناتور الديمقراطي لي هاملتون؟ مهمة ذات صلة بأيّ طراز من المساعي الحميدة؟ وساطة بين مختلف أطراف التوتر المذهبي والأهلي في العراق؟ جولة إقليمية تستهدف زجّ المزيد من القوي الخارجية في حلّ معضلات العراق؟ كلا، بالطبع، لأنّ آخر خدمة حاول بيكر أن يسديها إلي شعب العراق المعذّب كانت تمثيل البيت الأبيض في... جدولة الديون الخرافية التي في ذمّة العراق! ولقد نال العراقيين ما يكفيهم من حذلقة بيكر المحامي الأريب، خصوصاً حين رقص علي حبلَين في آن معاً: أداء المهمة النبيلة ، حسب وصف بوش نفسه، في إيجاد حلول لجدولة أو محو ديون في ذمّة العراق تقارب 200 مليار دولار من جهة؛ وممارسة مهمّة أخري (يصعب وصفها بـ النبيلة !) نقيضة تماماً، هي تحصيل ديون الحكومة الكويتية وتأمين مصالح مجموعة كارلايل (حصّة بيكر في أسهمها تبلغ 180 مليون دولار) من جهة ثانية! نايومي كلاين، في تحقيقها الممتاز الذي نشرته مجلة The Nation الأمريكية، كشـــفت النقاب عن تفاصيل مثيرة ودامغة حول هذا التـــضارب في المصــالح، التضارب الصارخ الفاقع ولكن ليس العجيب أو الغريب في سياقات العراق الراهن.

وإلي هذا فإنّ مهمّة بيكر تلك، ذات الشقّين المتباعدَين المتلاقيين، كانت تعيد تنشيط ذاكرتنا حول أخلاقية أمريكية فريدة، كما تعيدنا إلي شخصية لم تكن البتة غريبة عن العراق، إذْ العكس هو الصحيح: هذا رجل يقف في المرتبة الثانية، بعد جورج بوش الأب، بين كبار رجالات أمريكا الذين هندسوا ونفّذوا مختلف عمليات حرب الخليج الثانية، من معارك الدبلوماسية إلي درع الصحراء و عاصفة الصحراء والهدنة، فضلاً عن معظم ما كان حينذاك يتّصل بشؤون وشجون العراق والكويت والسعودية ومعظم الخليج والشرق الأوسط ومؤتمر مدريد، وصولاً إلي قرار الناخب الأمريكي إحالة بوش الأب إلي التقاعد القسري رغم أكاليل الغار التي كانت تثقل رأسه. وللعلم، لكي نبقي في هذا الميدان المحبب لدي متقاعدي وزارة الخارجية الأمريكية، كانت مادلين أولبرايت علي صلة بالشطر الثاني من مهمة بيكر، أي استرداد الديون الكويتية!

مفارقة أخري في هذه الحال العراقية، غير بعيدة عن النفط ونهب ثروات العراق بوصفه أحد أبرز الأغراض التي وقفت وتقف خلف غوص هذه الإدارة الامريكية في المستنقع العراقي، تتمثل في ما يقوله اليوم ستوارت باون، المفتش الخاصّ لإعادة إعمار العراق SIGIR أمام لجنة الإصلاح الإداري في الكونغرس. ذلك لأنّ الرجل لا يبدو أبداً وكأنه يشاطر الرئيس الامريكي شغفه باللغة الوردية حين يصف أحوال العراق الإدارية، أي: المالية والاستثمارية والتعاقدية، تحت إشراف رجال الاحتلال الأمريكي أنفسهم. هنالك وقائع مذهلة تروي فضائح واختلاسات وهدر أموال عراقية، علي يد بعض ممثلي سلطة التحالف، وبمشاركة أو بعلم أو بتشجيع أو بإغماض العين من جانب السلطات الأمريكية.

وثمة اليوم ما هو أدهي من تلك الأقاصيص التي رواها تقرير التفتيش ذاته قبل سنتين، خصوصاً وأنّ المفتش العام يرفع تقريره إلي اثنين من كبار صانعي القرار في الولايات المتحدة، وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، الأمر الذي يعني أنه يمزج الشأن السياسي بالشأن العسكري. وكانت خلاصات المفتش وتوصياته ستمرّ مألوفة عادية، علي هدي ما يجري من فساد هنا وهناك في العالم شرقاً وغرباً، لولا أنّ التفاصيل تظلّ مذهلة في جانبين جوهريين، بين جوانب أخري: أنّ الفضائح تدخل في سياقات منهجية منتظمة تجعلها أقرب إلي النسق الدائم وليس المظاهر العابرة، وأنها تتمّ في شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، ودائماً تحت شعار دمقرطة العراق.

وهنالك، من جديد ودائماً، تلك الأسئلة الشائكة عن عائدات النفط العراقي: ما قيمتها؟ أين تذهب؟ مَن يتحكّم بها؟ وهل توضع في خدمة العراقيين؟ ذلك لأنّ ما يتوفر من معلومات رسمية يشير إلي إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز، بالإضافة إلي مليار دولار اقتُطعت من برنامج النفط مقابل الغذاء ، ذهبت إلي صندوق تنمية العراق الذي تمّ إنشاؤه بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483. ونعلم أنّ ذلك القرار نصّ علي وضع الصندوق في عهدة الإحتلال، بغرض استخدام الأموال علي نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك نصّ علي أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الإحتلال مع مختلف المتعاقدين.

ما لا يعرفه الكثيرون، ولكنّ كان يعرفه حقّ المعرفة أمثال غازي الياور وإياد علاوي وإبراهيم الجعفري، ويعرفه اليوم جلال الطالباني ونوري المالكي، أنّ هيئة المحاسبة تلك لم تتمكن أبداً من أداء عملها كما ينبغي (وعلي سبيل المثال فقط: لم تفلح في تدقيق عقود الاحتلال مع الشركة العملاقة هاليبرتن، ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني)، وجابهت عشرات العراقيل البيروقراطية. في المقابل، وعلي نقيض ممّا هو شائع، لم تنفق سلطات الاحتلال سوي 500 مليون دولار من مبلغ الـ 18.7 مليار التي وضعها الكونغرس في تصرّف البيت الأبيض بهدف إنفاقها في العراق، حسب معلومات صحيفة واشنطن بوست الأمريكية. من جانبها كانت صحيفة نيويورك تايمز قد خفّضت المبلغ إلي 400 مليون، وأوضحت أنّ معظم الصرف ذهب لصالح متعاقدين أمريكيين وشركات أمريكية.

هل حال النهب هذه مردّها أشباح الحرب الأهلية، واقتتال السنة والشيعة، وانقلاب العراق إلي مرتع للإسلاميين المتشددين من كلّ حدب وصوب، وإلي مختلف صنوف الإرهاب والإرهاب المضادّ؟ وهل تقع المسؤولية علي عاتق حكومة المالكي، لأنّ الأخير إما جاهل أو محدود القدرات؟ أم أنّ أغراض الاحتلال ومآلاته، وبينها ثقافة النهب المنظّم لثروات العراق، هي التي تندرج في طليعة الأسباب؟ وهل يدهشنا أن نقرأ هذه الأيام تحليلات باذخة، يوقعها كبار متقاعدي الدبلوماسية الأمريكية، تتحدّث عن الحرب الأهلية في العـــراق، ليس بوصــفها بعض عواقب الاحتلال، بل لأنها قدر استشراقي وتحصيل حاصل مجتمعي لا مهرب منه؟

اليوم، مثلاً، لا يتردد رجل مثل هنري كيسنجر في إطلاق صفة الحرب الأهلية علي أعمال العنف، ويفتي بأنّ تقسيم العراق علي أسس إثنية قد يكون المخرج، هو الذي أنبأنا قبل سنة فقط أنّ احتلال العراق كان محض تفصيل في تخطيط أعلي يستهدف لجم الإسلام المتشدد! وفي مقالة مسهبة بعنوان دروس من أجل استراتيجية مخرج ، نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أواخر آب (أغسطس) 2005، كتب حكيم الدبلوماسية الأمريكية يقارن بين فييتنام والعراق: من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري (...) الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزي العميق أكثر ممّا كان لفييتنام. فلو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة علي شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد علي امتداد العالم المسلم. والقوي الراديكالية في البلدان المسلمة، أو الأقليات المسلمة في البلدان غير المسلمة، سوف تتجاسر في هجماتها علي الحكومات القائمة. ولسوف تتعرّض للخطر السلامة والاستقرار الداخلي في كلّ المجتمعات الواقعة ضمن نطاق الإسلام المتحزّب ...

فكيف إذا انقلبت الأحدوثة إلي ما تنقلب إليه اليوم؟ وأيّة موجات صدمة ينبغي أن ننتظر؟ وأين الطالبان ممّا ستسفر عنه أيام العراق الحبلي؟ وفي الجوهر: إلي أية هوّة ستنتهي فحشاء الفارق بين النوايا والدماء؟