الثلاثاء 05 ديسمبر2006

د. محمد عابد الجابري

بعد أن نسب البابا بينيدكت السادس عشر إلى ابن حزم ذلك الخطأ الذي كان موضوع الحلقة السابقة، يعلق من عنده بما يلي، قال: quot;وبقدر ما يتعلق الأمر بفهم ألوهية الإله وبالتالي الممارسة المشخصة للدين، فإننا نجد أنفسنا هنا أمام مفارقة مثيرة للحيرة، تطرح نفسها علينا اليوم. يتعلق الأمر بالمشكلة التالية: هل الاعتقاد في أن مما يتناقض مع طبيعة الله إتيان الإنسان لأفعاله على خلاف ما يقتضيه العقل، هو اعتقاد صادق في نفسه دوماً، أم أنه مجرد فكرة قررها العقل الإغريقي لا غير؟quot;. يجيب البابا: quot;أعتقد أننا نستطيع هنا أن نتبين الانسجام التام بين ما هو إغريقي، بالمعنى الأفضل للكلمة، وبين العقيدة الإنجيليةquot;. ومن هذه النقطة يعمل البابا على تأسيس الأطروحة المركزية التي يدافع عنها في خطابه، الأطروحة التي يردّ فيها على الداعين، من علماء اللاهوت المسيحي قديماً وحديثاً، إلى نزع الصبغة الإغريقية عن المسيحية. والمقصود بالصبغة الإغريقية هنا هو الاعتقاد في التثليث. وإذا كان البابا لا يصرح بـquot;التثليثquot;، فإن دفاعه عن quot;الصبغة الإغريقيةquot; في المسيحية ضداً على المنادين بتحريرها منها والعودة إلى المسيحية الأولى (أو الأصلية)، لا يعني شيئاً آخر غير الدفاع عن quot;التثليثquot;. والذين من القراء تتبعوا ما كتبناه في هذه الصفحة عن أريوس والأريوسية، يلمحون منذ الآن ما ذا يعنيه خطاب البابا. إن خطاب البابا دفاع عن المسيحية كما صاغتها الكنيسة الرسمية من خلال المجامع المسكونية التي عقدتها في القرنين الرابع والخامس للميلاد، وبكيفية خاصة مجمع نيقية Niceacute;e الذي انعقد عام 325 ميلادية وحكم بالهرطقة والابتداع على مذهب أريوس التوحيدي الذي يقول بأن الله واحد وأن المسيح عليه السلام بشر وأمه مريم (على نحو قريب جداً مما ورد في القرآن الكريم). ولكي يغلق هذا المجمع المسكوني الباب أمام أي اجتهاد في موضوع العقيدة، وضع ما سمي بـquot;قانون الإيمانquot; المسيحي، ونصه: 1) quot;نؤمن بإلهٍ واحد أبٍ قادر على كل شيء صانع كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة، 2) ونؤمن بربٍ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله، مولود الأب الوحيد أي من جوهر الأب، إله من إله، نور من نور، إله حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر، الذي بواسطتهِ كل الأشياء وُجِدَت، تلك التي في السماء وتلك التي في الأرض، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزلَ وتجسَّد، تأنَّس، تألَّم وقام في اليوم الثالث، صعدَ إلى السماوات، آتٍ ليدين الأحياء والأموات، 3) ونومن بالروح القدس. الرب المحيي، المُنبثِق من الأب، الذي هو مع الأب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد، الناطق بالأنبياء...quot;.

سنعود إلى هذه المسألة وغيرها بتفصيل من خلال تتبع فقرات خطاب البابا. أما الآن فالتعليق الذي يفرض نفسه على الفقرة التي أوردناها أعلاه من هذا الخطاب، فيخص العبارة الأخيرة منها والتي يقرر البابا فيها quot;الانسجام التام بين ما هو إغريقي، وبين العقيدة الإنجيليةquot;، وبعبارة أخرى: التوافق بين الدين المسيحي والفلسفة اليونانية. وبقطع النظر عن ماهية هذا التوافق ومداه -الشيء الذي سنعرض له لاحقاً- يجب أن نسجل أن البابا قام هنا بقفزة على التاريخ غير مبررة بالمرة، وهو يعرف أنه يفعل ذلك.

ذلك أن أول محاولة في مجال التوفيق بين الدين والفلسفة إنما قام بها الفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري المولود سنة 30 قبل الميلاد والمتوفى سنة 50 بعده. كان ككثير من معاصريه اليهود يقرأ ويكتب باليونانية، بما في ذلك التوراة التي ترجمت إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد. وقد بلغ التداخل بين الفكر اليوناني وبين الفكر اليهودي درجة صار معها من الشائع القول بأن اليونان أخذوا من التوراة. وقد سهل هذا التداخل قيام المتفلسفة اليهود بـquot;شرح الدين اليهودي بالفلسفة اليونانيةquot;، مستعملين في ذلك الطريقة الرمزية التي استعملها الفيثاغوريون والأفلاطونيون والرواقيون في شرح الأساطير اليونانية (الميثولوجيا)، فاعتبروا مثلاً ما يطبع سيرة اليهود، كما تحكيها التوراة، من طاعة لله والتمرد عليه، رمزاً لاقتراب النفس من الله حين ابتعادها عن شهواتها وابتعادها منه حين تصرفها وفق شهواتها. وأقاموا تماثلاً بين عقل الإنسان (آدم) والعقل الذي خلقه الله في عالم المثل (اللوغوس) من جهة، وبين قوة الحس المساعدة للعقل، وبين حواء المعينة لآدم من جهة أخرى، ثم بين جنوح القوة الحسية نحو اللذات من جهة وبين الحية التي جرت حواء ومعها آدم إلى الأكل من الشجرة من جهة أخرى... الخ.

ومن أجل أن يكون في الإمكان اقتراب الإنسان، الذي هو مزيج من العقل والمادة، الخير والشر... من الله الذي هو متعالٍ ومنزه عن الشر، يرى فيلون أنه لابد من وسطاء: أولهم quot;اللوغوسquot; أي quot;الكلمة ابن اللهquot;، وثانيهم quot;الحكمةquot;، ورابعهم آدم الأول، وخامسهم الملائكة، يلي ذلك quot;القواتquot; وهي ملائكية وجنية وهوائية... الخ.

والشاهد عندنا هنا هو أن فكرة اللوغوس كأول ما خلق الله وكـquot;ابن اللهquot; وكوسيط بين الله والعالم، فكرة قال بها يهود الإسكندرية قبل ظهور المسيح ومن المرجح أن يكون quot;بولس الرسولquot;، مُرَسِّم التثليث في المسيحية، قد أخذها منهم. وسكوت البابا عن ريادة يهود الإسكندرية في مجال الجمع والتوفيق بين الفلسفة الإغريقية والتوراة، لا يمكن أن يكون بريئاً خصوصاً وهو يمنح هذه الريادة للحواري يوحنا الإنجيلي (المتوفى سنة 101 بعد الميلاد) الذي قال عنه في خطابه، مباشرة بعد الفقرة السابقة أعلاه: quot;لقد اقتبس يوحنا Jean الآية الأولى من سفر التكوين -وهي أول آية في التوراة كلها- فاستهل بها مقدمة إنجيله فقال: quot;في البدء كانت الكلمة (quot;اللوغوس logos). إنه بالضبط اللفظ الذي استعمله الإمبراطور: quot;الله يفعل باللوغوس. واللوغوس يعني: العقل، كما يعني في ذات الوقت الكلمة، أي أنه خالق وقادر على التعبير والتواصل، وبالتحديد هو يفعل ذاك بوصفه عقلاًquot;. ويضيف البابا: quot;هكذا قدم يوحنا القول الفصل المعبر عن المفهوم الإنجيلي لـquot;اللهquot;، القول الذي تجد فيه جميع معارج العقيدة الإنجيلية، المتشعبة الشاقة في معظم الحالات، التركيب الذي يجمعها. في البدء كان اللوغوس، واللوغوس هو الله. ذلك: ما قاله (يوحنا) الإنجيليquot;.

والملاحظ أن البابا يقوم هنا باختزال شديد، ذلك أن يوحنا الإنجيلي لم يقم فقط باستبدال لفظ بلفظ، بل أحل مساراً مكان مسار. ففي سفر التكوين (أول كتب التوراة) نقرأ ما يلي: quot;فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، 2 وَإِذْ كَانَتِ الأَرْضُ مُشَوَّشَةً وَمُقْفِرَةً وَتَكْتَنِفُ الظُّلْمَةُ وَجْهَ الْمِيَاهِ، وَإِذْ كَانَ رُوحُ اللهِ يُرَفْرِفُ عَلَى سَطْحِ الْمِيَاهِ، 3 أَمَرَ اللهُ: laquo;لِيَكُنْ نُورٌraquo;. فَصَارَ نُورٌquot;. أما في إنجيل يوحنا فنقرأ في مستهله: quot;فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ هُوَ اللهُ. 2 هُوَ كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. 3 بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ. 4 فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ هَذِهِ كَانَتِ نُورَ النَّاسِ. 5 وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظَّلاَمِ، وَالظَّلاَمُ لَمْ يُدْرِكْ النُّورquot;َ.

quot;الكلمةquot; ٍVerb, Verbe في التوراة، ينصرف معناها إلى الأمر والفعل أو الخلق، كما في القرآن: quot;إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُquot;. أما في إنجيل يوحنا فالكلمة هي quot;العقلquot; وهي quot;اللهquot; وهي quot;المسيحquot;، كما في quot;قانون الإيمانquot; أعلاه، وأيضاً كما قال فيلون الإسكندري، قبل يوحنا وقبل quot;قانون الإيمانquot;!

والإشكالية التي تطرح هنا بصدد quot;الكلمةquot;، إشكالية فلسفية قبل أن تكون إنجيلية، ويرجع تاريخها إلى أفلاطون الذي اضطر إلى القول بإلهين: الإله المتعالي الذي quot;ليس كمثله شيءquot;، والإله الصانع الخالق. وذلك كي يحل مشكلة العلاقة بين الله والعالم المتمثلة فيما يلي: إزاء وحدانية الله هناك التعدد في العالم! والله موجِد العالم أو خالقه، فكيف نفهم العلاقة بين تلك الوحدانية وهذا التعدد؟ وبعبارة أخرى: كيف نفهم صدور الكثرة عن الواحد؟

حاول بعض فلاسفة الأفلاطونية المحدثة القائلين بفكرة الفيض، حل المشكلة بالقول بثلاثة أقانيم: الله، العقل الكلي، النفس الكلية، (على اختلاف بينهم). وإذا كانت المسافة ما بين هذه الأقانيم الثلاثة وبين العناصر الثلاثة المؤسسة لعقيدة التثليث (الأب والابن وروح القدس)، بعيدة على المستوى المفهومي، فإن ما يجمع بينها هو أنها تقوم بوظيفة تثليث الألوهية. وسيدافع البابا عن كون التثليث المسيحي هو من صميم الدين، من قلب التوراة، وليس منقولاً من الفلسفة، وإن كان ينسجم معها، كما سنرى لاحقاً