الجمعة08 ديسمبر2006

شيء ما
د. حسن مدن


يلفت تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية الأنظار إلى وجه مهم من أوجه معاناة العراق والعراقيين اليوم، الذي يتمثل في ذلك النزيف الخطير للعقول المبدعة في المجالات العلمية والتقنية، ولأصحاب التخصصات المهمة من أطباء ومهندسين وأكاديميين ومثقفين ومبدعين في المجالات المختلفة، الذين يتعرضون للقتل العبثي من قبل العصابات التي احترفت القتل، أو يضطرون لمغادرة البلد حفاظا على أرواحهم وأرواح عائلاتهم جراء موجة العنف الجهنمية التي تجتاح البلد، والتي لا يمكن لعالم أو مثقف أن يجد لنفسه مكانا فيها. ولفت الأنظار أكثر إلى هذه المعاناة الحادث الإجرامي الذي وقع للعاملين في إحدى إدارات وزارة التعليم العالي من اختطاف جماعي على يد مسلحين، حيث نظر إلى هذه العملية على أنها تأتي في سياق استهداف العقول والكفاءات وأصحاب الاختصاصات العلمية والأكاديمية.

ورغم أن معاناة المثقفين والأكاديميين العراقيين لم تبدأ مع وقوع البلد تحت الاحتلال، فحتى في ظل النظام السابق شهد العراق هجرة واسعة للمثقفين وذوي الاختصاصات وحملة الشهادات بسبب الظروف السياسية والاقتصادية وغياب الحريات وغيرها من الأسباب، لكن هذه المعاناة بلغت مستويات غير مسبوقة مع موجة العبث الدموي التي تجتاح البلاد على أيدي قتلة ومسلحين يمثلون اتجاهات شتى متناحرة. وحسب التقرير المشار إليه فإن أساتذة الجامعة يتصدرون عدد القتلى من ذوي الاختصاصات في الفترة بين أبريل/ نيسان 2003 وأبريل ،2006 ويشكل هؤلاء نسبة 64% يليهم ذوو الاختصاصات الطبية في الجامعة وخارجها (21%). ومعظم الضحايا أساتذة وغيرهم من الأكاديميين. كما غادر نحو ألف طبيب العراق بينما قتل نحو 220 طبيبا خلال نفس الفترة.

ويرى الكثير من المثقفين والأكاديميين العراقيين أن الهدف الرئيسي من أعمال القتل هذه هو إضعاف البلاد وحرمانها من طاقاتها البشرية، وبصفتها جزءا من خطة لتدمير العراق وإيقاف العملية السياسية وعرقلة إعادة إعمار البلاد، لأن الأمر يتعلق بعملية تصفية منهجية لإمكانات العراق، والحيلولة دون تمكنه من معافاة نفسه والعودة إلى وضعه العائد له كقوة استراتيجية في المنطقة.وبرأي أحد الأكاديميين العراقيين النابهين فإن عراقا متقدما لن يكون مرغوبا على نطاق السياسة الجغرافية، في إطار مخطط إعادة صياغة الشرق الأوسط الرامي لتحويل المنطقة إلى دويلات صغيرة متناحرة تنفق كل مواردها على التسلح لتمويل الصراعات وتفقد طاقاتها البشرية في هجرة متواصلة للغرب الذي هو في حاجة إليها.

ولا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ أن العراق منذ لحظة وقوعه تحت الاحتلال تعرض إلى عمل منظم لتدمير بنيته التحتية في مجال الثقافة، حيث استهدفت المكتبات والمعاهد العلمية والمتاحف التي تعرضت لعمليات حرق وتدمير ونهب، وتبدي المنظمات المعنية بالثقافة والتراث الإنساني على المستوى العالمي، وفي مقدمتها منظمة ldquo;اليونسكوrdquo; حسرتها وقلقها الشديد من سرقة محتويات المتحف الوطني العراقي التي تتضمن نفائس حضارات عظيمة موغلة في القدم، هي تلك التي ازدهرت في وادي الرافدين، وجرى كل ذلك تحت أنظار قوات الاحتلال الأمريكي التي كانت دباباتها تطوق مبنى المتحف، فيما كان جنودها يتفرجون على اللصوص والرعاع وهم ينهبون ما في قاعات المتحف وخزائنه من كنوز الحضارة الإنسانية.

ولا يأتي الخطر على الثقافة وعلى المؤسسات العلمية، وعلى حياة العلماء والأكاديميين من المجموعات الإرهابية المتطرفة فحسب، وإنما من التيارات المحافظة التي تهيمن على الحياة السياسية في العراق اليوم، والتي لا تقيم وزنا لحرية التعبير، ولا تعرف الحدود الفاصلة بين السياسة والدين، والتي تسعى قسريا لفرض نمط من الحياة لم يعهده العراقيون الذين عرف عنهم الانفتاح والتنور.