محمد كروان - إبراهيم غرايبة

تفتح زيارة البابا إلى تركيا صفحة جديدة في ملف العلاقات الإسلامية المسيحية، وهو ملف يحمل سلسلة طويلة من التجارب والأحداث، فيها الكثير من الصراع والاختلاف، والكثير أيضا من الحوار والتعاون، وبرغم أنه تاريخ طويت أحداثه فإنها لم تنس، ومازالت تشكل مصدرا للذكريات والمواقف والأفكار والمتبادلة، والمشحونة بالرموز والدلالات والمرارات أيضا، من موجة الإسلام التي انساحت في الشرق منطلقة من الجزيرة العربية، إلى الحروب الصليبية، والاستعمار، والحوار والبعثات العلمية والهجرة والتجارة والمصالح وطريق الحرير، والترجمة والاندماج والصراع على ضفتي المتوسط.وفي مرحلة الصعود الديني التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة عادت جدلية العلاقة بين الإسلام والمسيحية من جديد، الجماعات الإسلامية بين الإسلاميين المهاجرين والمتوطنين في الغرب، وبعث الهوية الإسلامية لمجتمعات ودول أوروبية (البلقان) والعنف والإرهاب والاحتلال، وفي الوقت نفسه صعود الجماعات والحركات الأصولية المسيحية واليهودية المتطرفة، والعولمة والمعلوماتية وعالم الاتصالات والتداخل والاعتماد المتبادل.كانت أحداث الحادي عشر من أيلول(سبتمبر) لعام 2001 تدشينا رسميا لما سمي بصراع الحضارات، صحيح أن إرهاصات الحرب أو مشروعها بدأت قبل ذلك بسنوات، ولكن الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي كان إشارة رسمية بانطلاق الحرب العالمية الجديدة، واحتلت أفغانستان والعراق، وأدخل العالم في دوامة من الدم والفوضى والكراهية، كانت حالة تتوق إليها الجيوش والمصانع واللوبيات التي تعطلت بنهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وحلا لمأزق جماعات وحكومات مفلسة على وشك الانهيار، وعاد الجدل الإسلامي المسيحي أقوى وأكثر أهمية من قبل .


أنقـرة..الطريق إلى الاتحاد الأوروبي يمر عبر الفاتيكان

محمد كروان

* كانت تركيا أول محطة في دولة إسلامية حطت بها طائرة البابا بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان في أعقاب محاضرة ألقاها مؤخراً، أساء فيها للإسلام والمسلمين، ويعود اختيار البابا لزيارة أنقرة، وموافقة الأخيرة على تلك الزيارة إلى أهداف واستيراتيجيات، وضعها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على جدوله السياسي، بينما اعتبرها البابا صفحة جديدة للخروج من دائرة الانتقادات التي واجهها في أعقاب تصريحاته المسيئة للإسلام.. وبين ميكيافيلية الطرفين برزت على السطح الأهداف المرجوة من الزيارة حتى إذا كان الإفصاح عنها ضمنياً.رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لم يتوقف كثيرا عند الأصوات التي نددت بالزيارة منذ الإعلان عنها، معتبراً أنصار هذا التوجه مجموعات هامشية وذوي رؤية ضيقة، وعلى الرغم من أن البابا نفسه كان يعارض ـ قبل توليه البابوية ـ فكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بذريعة ما وصفه في حينه بالاختلاف الديني والثقافي بين أوروبا وتركيا، إلا أنه عاد اليوم وعدل رأيه حيث نقل عنه أردوغان خلال الزيارة تأييده لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.وبحسب توم هينيغن محرر الشئون الدينية في وكالة رويترز، فقد نجحت تلك الزيارة فعلا في تخفيف حدة التوتر الذي تولد عن محاضرته المثيرة للجدل التي ألقاها في سبتمبر الماضي، وبدا وهو يلوح للآلاف الذين اصطفوا قرب الطرقات التي سلكها أثناء زيارته رافعا علم تركيا وكأنه نجم إحدى فرق كرة القدم الشهيرة يلوح لمعجبيه، لا زعيما دينيا أثار جدلا بتصريحاته منذ فترة ليست بالقصيرة، ويعبر عن هذه الحقيقة كمال يوساك السكرتير العام لبرنامج الحوار الثقافي في إسطنبول بقوله: لقد كان البابا ولا يزال بالنسبة لنا على الأقل هو الكاردينال راتزينجر قبل أن يأتي في هذه الزيارة إلى تركيا، أما الآن فقد تم تنصيبه في قلوبنا ليكون البابا بينديكت فعلا.

معارضة غير متوقعة

وكان البابا قد فوجىء بحجم المعارضة التي تسابقت للتعبير عن سخطها قبيل الزيارة، وعلى الرغم من حدة تلك المظاهرات إلا أن وسائل الإعلام التركية والعالمية تسابقت في بيان محدوديتها وعدم تعبيرها عن رأي المواطن التركي حيث تضم تركيا أكثر من 90 ألف مسيحي و70 مليون مسلم، بيد أن عدسات المصورين التقطت صورا علقت عليها وسائل الإعلام العالمية تعبر عن عفوية تلك المظاهرات، يظهر فيها أحد الرجال الأتراك أثناء تسوقه للبضائع من أحد الأسواق، بينما يسمع من بعيد في شارع مجاور صيحات للمنددين بزيارة البابا، وحينما يصل البابا ترتفع الأصوات الغاضبة، فتزداد حماسته، ويقطع رحلة تسوقه، ويلتحم بالمظاهرة ويصب بعض لعناته على البابا ثم يعود لممارسة نشاطه العادي ويستكمل رحلة تسوقه.

الدبلوماسية جزء من الوظيفة

ولكن العامل الأهم في تهدئة حدة المعارضة في تركيا تعود إلى أن الحبر البالغ من العمر 79 عاما أظهر أنه متفهم لحقيقة أن الدبلوماسية يجب أن تكون جزءا من وظيفته كرئيس لـ1.1 بليون شخص من الرومان الكاثوليك، وعلق على هذه المسألة مصطفى أكيول وهو واحد من كبار الكتاب الصحفيين الأتراك في عموده اليومي قائلا إن البابا يتصرف الآن كما لو كان رجل دولة، تحكمه الواقعية ولا يسبح في بحور الأوهام والخيالات، وبحسب بكير كارلياجا أستاذ الفلسفة الدينية بجامعة مرمرة في إسطنبول فقد أبدى البابا تحولا من النقيض إلى النقيض، وأظهرت تصرفاته أنه غير من نظرته للإسلام، وبقي الآن أن نتابع أفعاله لنرى إذا ما كان يعني فعلا ما يقول أم أن المسألة لم تعد كونها مجرد محاولة لامتصاص الغضب؟
وقد تعدى صدى الزيارة وأصداؤها الإيجابية الدولة المضيفة، إلى ما حولها من بلاد العالم الإسلامي، بل وبلاد العالم، وفي فرنسا على سبيل المثال تعيش أكبر جالية مسلمة في أوربا، وقد شعر أبناء الجالية بحال من الارتياح رغم أجواء الشكوك التي كانت تراود الجميع قبل بدء الزيارة ومنذ الإعلان عنها، ويقول كريستوف روكو الكاثوليكي الفرنسي وخبير العلاقات مع الإسلام إن إشارات البابا المطمئنة لم يتم استقبالها فقط في تركيا بل شملت أيضا الأقليات المسلمة في أوربا وقد طوى البابا صفحة ريجنسبيرج الحزينة.

في الجهة المقابلة

وعلى الطرف الآخر، تنطلق بعض الأصوات من داخل العالم العربي معلنة عدم رضاها عن نتائج تلك الزيارة، فإذا كان النظام العلماني في تركيا ووقوعها في أطراف خريطة العالم الإسلامي سمح بتقبل إشارات البابا وإيماءاته باعتبارها اعتذارا فالأمر ليس كذلك بالنسبة لمحمد حبيب أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر والذي قال إن المطلوب هو اعتذار كامل وصريح من البابا وليس مجرد توضيح موقف، مشددا على أن تصريحات البابا تعني ببساطة أنه يحترم المسلمين ولكنه لا يحترم الإسلام ومعتقداته، وهذا هو جوهر القضية.وحول هذه التصريحات يقول مصطفى أكيول الكاتب الصحفي التركي إن هذه الآراء تعكس عمق الاختلاف بين العرب والأتراك، فالعرب لا يمكنهم فهم إشارات وإيماءات الغرب كما يفهمها الناس في تركيا، والفهم العربي للعالم المسيحي توقف عند محاضرة ريجينسبيرج وسوف يبقى متوقفا هناك إلى الأبد.وتدور تعليقات معظم الصحف التركية تقريبا حول ذات الفكرة، وهو تأكيد الانتماء الأوروبي لتركيا، والتشديد على أن الزيارة تحمل في مضمونها تميزا لتركيا عن سائر بلدان العالم الإسلامي، وأن هناك شيئا مختلفا في تركيا يجعل من الصعب الجمع بينها وبين الدول العربية في سلة واحدة، ويبدو أن هذه الفكرة كانت تقف وراء القبول بالزيارة على المستوى الرسمي.

النفعية والتقارب
النفعية التي تحكمت في التقارب بين الفاتيكان وتركيا، كانت الورقة التي لعب بها الطرفان، واستخدماها لتنفيذ أهدافهما، وكان ذلك ظاهراً بوضوح في وسائل الإعلام الرسمية التركية خاصة صحيفة quot;الصباحquot; التي تجاهلت تماما ردود الفعل الغاضبة من زيارة بابا الفاتيكان في الشارع التركي، ورحبت بالبابا وكتبت كلمة quot;مرحباًquot; بالإيطالية في صدر صفحتها، ووصفت الزيارة بأنها زيارة quot;تاريخيةquot; في وقت تصاعد فيه التوتر بين الغرب والإسلامquot;، ويرى المراقبون أن زيارة البابا بينديكت السادس عشر لتركيا سياسية أكثر منها دينية، وإن كانت التصريحات الصادرة من أنقرة تثبت عكس ذلك، فمن خلال النظر برؤية أوسع وأكثر شمولية يتضح أن تلك الزيارة تعتبر تحولا جذريا في موقفه السابق من قضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. فقد أعلن في أول قداس له يوم 20-4-2005 وعقب اختياره بابا للفاتيكان بيوم واحد أنه يعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، واعتبر أن ذلك الانضمام quot;أمر خطير يجب تفاديهquot;.

خطوة إيجابية

وبعد التطورات التي نجمت عن توصيات الاتحاد الأوروبي بخصوص انضمام أنقرة للاتحاد، أدرك رئيس الوزراء التركي ضرورة القيام بخطوة إيجابية في هذا الصدد، وسمح لبابا الفاتيكان بالزيارة، خاصة بعد أن أوصت مفوضية الاتحاد الأوروبي بتعليق جزئي لمفاوضات انضمام تركيا للاتحاد بسبب عدم فتح موانيها أمام قبرص، وهو ما اعتبره خبراء الشئون الأوروبية بمثابة quot;إبطاءquot; لعملية الانضمام ولكنها سياسة تكتيكية تخدم الطرفين، خصوصاً رئيس الوزراء التركي نفسه رجب طيب أردوغان، وذلك في ضوء الانتخابات التي ستشهدها تركيا وعدد من الدول الأوروبية في 2007. وتتراوح مدة التعليق ما بين 6 و9 أسابيع، وتشمل الفصول المقرر تجميد المفاوضات بشأنها، حرية انتقال السلع ورأس المال والخدمات، بالإضافة إلى الجمارك والتجارة والمواصلات والزراعة وصيد الأسماك...

هل هو تأييد فعلي؟
وجاء توقيت صدور هذه التسريبات بشأن انضمام تركيا بعد إعلان رئيس الوزراء التركي أنه حصل على تأييد بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خلال زيارته لأنقرة، على الرغم من أن هذه التصريحات لم يتفوه بها البابا شخصياً، بل جاءت على لسان أردوغان، كما سارع مسؤولون بالفاتيكان بالإعلان أن الفاتيكان يستطيع أن يؤيد انضمام أنقرة للاتحاد لكنه لا يستطيع أن يؤثر في قرارات الاتحاد الأوروبيquot;، وإذا كان البعض يعتبر أن الزيارة قد قربت تركيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن العديد من المراقبين لا يؤيدون تلك الفكرة بشكل كامل، حيث كان البابا بيندكت قد أدلى بتصريحات فور نزوله من سلم الطائرة، وكان ملخص تلك التصريحات أن البابا يرحب بالمفاوضات الجارية في بروكسل حاليا، وقد قام رئيس الوزراء التركي رجب الطيب أوردوغان بإبراز هذه التصريحات باعتبارها تراجعا عن موقف البابا السابق الذي عبر عنه في مناسبات أخرى، وبقليل من المبالغات الصحفية المعروفة، ظهر الأمر وكأنه في صورة دعم بابوي كامل لتركيا، ونشرت بعض الصحف المحلية التركية فعلا عناوين رئيسية تحمل هذا المضمون، وهو ما حدا بمسؤول من الفاتيكان إلى المسارعة بإصدار تصريح جديد يحاول فيه إلقاء أضواء تتسم بالواقعية على تصريحات البابا، وتضمن تصريح المسؤول ربما بإيعاز من البابا بينديكت ذاته، عبارات وردت في حديث سابق عن ذات القضية الذي أبدى خلاله رفضه لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وأشار المسؤول إلى أن الفاتيكان الذي لا يتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي أصلا لا يتخذ مواقف محددة في القضايا السياسية البحتة على شاكلة هذه القضية، وأنه يدعم المثل والأهداف الأساسية للوحدة الأوروبية بسبب الجذور والتقاليد المسيحية المشتركة للقارة.

جذب الأضواء
جاء ذلك في الوقت الذي كشفت فيه تقارير عبرية نشرتها صحيفة معاريف تبنيا لسياسة الصيد في الماء العكر، تكشف النقاب عن أن زيارة بابا الفاتيكان لأنقرة في الأساس، تأتي تلبية لدعوة من الكنيسة هناك، أي إنها زيارة دينية بالأساس، ولكي يكون لها ثقل كان لا بد أن يلتقي البابا بمسؤول سياسي رفيع، ولكن ذلك مقابل تدعيم موقف أنقرة لدى الاتحاد الأوروبيquot;، كما أن البابا كان يرغب في أن يجذب أكبر قدر ممكن من الأضواء على زيارته لتركيا، التي تعتبر جسرا للتواصل بين أوروبا والعالم الإسلامي، وذلك بهدف تحسين موقفه أمام المسلمين بعد الضجة والغضبة الإسلامية التي أثارتها تصريحاته المسيئة للإسلام والنبي محمد مؤخراquot;. وبحسب الصحيفة العبرية فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي شارفت ولايته على الانتهاء، يصر على ضرورة اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية قبل الانضمام للاتحاد، فيما يعارض نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية والمرشح المحافظ لرئاسة الإليزيه انضمامها للاتحاد تحت أي ظروف.

مشاركة في التأمين

وبعيداً عن ملابسات زيارة بابا الفاتيكان لتركيا والنتائج المرجوة منها، اهتمت إسرائيل بالزيارة وصفتها بأنها تقدمٌ على مسار العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، حيث أن هذه العلاقات ستنعكس بشكل مباشر على إسرائيل التي تسعى هي الأخرى لإيجاد قنوات من التقارب مع الاتحاد الأوروبي، وإذا كانت هناك علاقات ومناورات عسكرية مشتركة بين أنقرة وتل أبيب، فإن انضمام الأولى للاتحاد سوف يعطي فرصة لإسرائيل للظهور والحصول على نصيب من كعكة العلاقات مع أوروبا، واتضح اهتمام إسرائيل بزيارة البابا لتركيا بشكل لا يدع مجالا للشك عندما أصدر وزير الدفاع عامير بيرتس قرارا بضرورة تأمين زيارة بابا الفاتيكان، وجرت هذه الاستعدادات بصورة بالغة السرية، وبحسب موقع quot;دبكاquot; العبري الذي يدعي صلته بقنوات استخباراتية في تل أبيب، فإن تأمين زيارة البابا لتركيا لم تقتصر على تدخل قوات من سلاح الجو الإسرائيلي، أو قوات الكوماندوز السرية التي رافقته في تنقلاته بين محطات زياراته في تركيا، وإنما تدخلت في تأمين الزيارة قوات حلف شمال الأطلنطي المرابضة في مياه البحر الأبيض المتوسط.

كواليس تأمين أردوغان

رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كان هو الآخر محط اهتمام من الإجراءات الأمنية المشددة، حيث أنه ظهر في مطار أنقرة لاستقبال البابا رسميا بشكل مفاجيء، ونقل التقرير العبري عن مصادر أمنية تركية رفضت الكشف عن اسمها:quot; إن رئيس الوزراء التركي ومنذ إعلانه قبول زيارة البابا أحيط بسياج أمني مشدد، نظرا لورود العديد من الإنذارات التي أكدت أنه أصبح الهدف الأول لبعض التنظيمات المسلحة، سواء في تركيا أو خارجها، وكان أردوغان يخرج في جولاته بغير طريقته المعتادة حيث إنه كان من الصعب على قوات الحراسة نفسها تحديد القافلة التي سيستقلها إلا بعد الحصول على الإشارة منه شخصياً وليس من أي شخص آخر أيا كانت علاقته به، وحتى خلال زيارة البابا، خرجت من مقر رئيس الوزراء التركي سبع قافلات توجهت جميعها إلى مطار أنقرة، ولكن من مسارات وطرق مختلفة، ولم يعلم أحد من طاقم الحراسة القافلة التي يوجد بها أردوغان!.

اجتماعات سرية
وبحسب موقع quot;دبكاquot; العبري فإن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية quot;الموسادquot; مئير داجان تلقى اتصالاً من إيطاليا قبل زيارة البابا بنديكت بأسبوعين، كشف فيه المتحدث للمرة الأولى عن أن البابا يعتزم زيارة تركيا وأنه قد يزور بعدها إسرائيل، ونظراً لطبيعة الأجواء الملبدة بالغيوم، في أعقاب تصريحات البابا الخاصة بالإسلام، فإنه من الضروري اتخاذ كافة إجراءات الحذر والحيطة لتأمين الزيارة، وطبقاً لما أورده الموقع فإن رئيس جهاز الموساد مئير داجان أجرى اتصالات فورية برئيس الوزراء أيهود أولمرت الذي عقد بدوره اجتماعا سريا حضره وزير الدفاع عامير بيرتس وعدد محدود من القيادات الأمنية لبحث الإجراءات التي من الممكن اتخاذها لتأمين زيارة البابا، كما جرى اتصال مماثل من الفاتيكان تم مطالبة قيادة قوات حلف شمال الأطلسي في مياه البحر الأبيض المتوسط بتأمين الزيارة.

نتائج الزيارة
وبعيدا عن الأجواء المتفائلة في تركيا والعالم والتي أحاطت بالزيارة في أيامها الأولى كتبت صحيفة quot;هيرالد تريبيونquot; تحليلا مثيرا أشارت فيه إلى أن تصريحات البابا التي أكد فيها أن تركيا تمثل الجسر الذي يمكن من خلاله العبور إلى العالم الإسلامي، لم تجد ما يصدقها من أفعال حيث كانت التصريحات متفائلة أكثر مما يجب، فقد غادر البابا الأراضي التركية وعاد إلى كرسيه دون أن يوضح كيف سيتم تنفيذ وعوده تلك، وكيف سيبدأ الحوار العظيم مع الإسلام، كما أنه وضع على مائدة مباحثاته مع المسؤولين الأتراك عدة مطالب حساسة من بينها فرض المزيد من الحماية للأقلية المسيحية في تركيا، وقد عبر في إسطنبول عن نفس المعاني التي أغضبت المسلمين من قبل في محاضرته الشهيرة، ولكن بطريقة أكثر دبلوماسية ورقة، قائلا إن الديانة المسيحية خليط ما بين الإيمان والمنطقية وأنها تبصر الناس وتضيء الطريق المؤدي إلى التسامح، وتجنب البابا تماما أن يذكر رأيه في الدين الإسلامي أو أتباعه، اللهم إلا شجبه لعمليات اقتران العنف باسم الله التي تتبناها القاعدة.ولكن العديد من المحللين يرون الزيارة في مجملها كانت جريئة وناجحة، وسوف يكتبها التاريخ في سجله كرجل دبلوماسي، فقد مد يده للمسلمين بالصلاة في اتجاه قبلتهم، تماما كما فعل مع المسيحيين الأرثوذكس حينما قام بأداء الصلاة في قداس مشترك إلى جانب البطريرك بارثلماوس الأول الزعيم الروحي للأرثوذكس وهو ما يرى المتفائلون أنه سيحقق التئاما لجرح ظل ينزف لأكثر من ألف عام كاملة .


المسلمون والمسيحيون .. جدليات الحوار والصراع

إبراهيم غرايبة

* نأمل أن تكون زيارة البابا تدشينا لمرحلة من الحوار والتعاون الإسلامي - المسيحي، ونهاية للأزمات الإعلامية والسياسية التي تثيرها بين الحين والآخر المواقف والتصريحات والممارسات الأوروبية بحق الإسلام والمسلمين، ولكنه يبدو أملا يفتقر إلى سند واقعي، ففي الغرب اليوم تتنامى موجة من الكراهية للعرب والمسلمين، تهدد حقوقهم الأساسية ومصالحهم وأعمالهم وحياتهم الشخصية، فضلا عن معتقداتهم وثقافتهم.والواقع أن العرب والمسلمين هم الحلقة الأضعف في هذه الحرب الدائرة، وهم الأكثر حاجة للسلم والتعاون، ففي الدول الأوروبية والأمريكية المسيحية تعيش أقليات من المسلمين تهددهم الكراهية والسياسات العنصرية، بل وأصبحت كراهيتهم أساسا للحملات الانتخابية والإعلامية والظهور والشهرة، وفي الوقت نفسه فإن كثيرا من الممارسات والأفكار (لإسلامية) توقع المسلمين في حرج بالغ وتعرضهم للإساءة والظلم، وتسيء إلى قضاياهم، وتشكل عالما من الفهم الميثولوجي المتبادل بين المسلمين والمسيحيين، وفي الوقت نفسه فإن ثمة شعوراً راسخاً في الشرق بأنه مهبط الوحي ومنطلق الأديان التوحيدية والسماوية، وثمة حاجة وضرورة لبقائه مكانا للتسامح الديني وتعايش أهل الديانات، وقد نجح العالم الإسلامي لقرون عدة في ترسيخ تعايش الأديان والحوار الديني، ولكن الحروب الصليبية أطلقت في تداعياتها ومتوالياتها حربا دينية داخلية في العالم الإسلامي، فقد جاءت هذه الحروب في الوقت الذي كانت تصعد فيه إلى قيادات العالم الإسلامي مجموعات إسلامية من غير العرب والذين لم يعيشوا تجربة التعايش والحياة المشتركة بين أتباع الديانات على مدى قرون عدة، بل وكانت القبائل والأحياء تتوزع مسلمين ومسيحيين ويهود، ومن الملفت أن الحروب الصليبية كانت في الوقت نفسه الذي شهد انقساما مسيحيا حادا بين الكاثوليك والأرثوذكس كانت أشد قسوة وضراوة من الصراع الإسلامي المسيحي.

لقد كان استمرار التواجد المسيحي وتواصل بناء الكنائس في الشرق الإسلامي دليلا حيا على استمرار المسيحية وقدرتها على التواصل بين أتباعها، ومازالت بعض الكنائس التي بنيت في العهود الإسلامية قائمة حتى اليوم، وبعضها لا يؤشر فقط على التعايش والتواصل، ولكن على تفاعل وجدل إسلامي مسيحي، فكنيسة أم الرصاص في جنوب الأردن والتي كانت أهم مركز مسيحي في الشرق الأوسط تشهد بعض مبانيها التي أنشئت عام 740م أي بعد مائة سنة من الفتح الإسلامي كانت رسوماتها الفسيفسائية والباقية حتى اليوم معدلة على نحو فني احترافي يؤكد كما يقول المؤرخ المسيحي صالح حمارنة بأنها ليست عملية تحريف وتشويه لتجعل من الكائنات الحية أقرب إلى التجريد وعدم الاكتمال، وذلك بناء على فتوى مسيحية لم تعمر طويلا بتحريم رسم الكائنات الحية على نحو تام، وهي فتوى ربما تكون قد تأثرت بالفقه الإسلامي الذي تحرم بعض اتجاهاته ومذاهبه رسم الكائنات الحية.

ويظهر التراث العربي والإسلامي قائمة طويلة من الكتب التي ألفت في جدل الأديان والدفاع عن نفسها والرد على بعضها على نحو يؤشر على حرية دينية واسعة، ومازالت المئات من هذه الكتب ومخطوطاتها محفوظة في المكتبات الأوروبية بخاصة، وقد جمع المستشرق الألماني موريتس شتنشيندر (المتوفى عام 1907) معلومات عن هذه المخطوطات، أماكن وجودها في المكتبات، وتعريفا بمحتوياتها ومؤلفيها، وجميعها ألفت باللغة العربية في العصور الإسلامية المبكرة وفي مرحلة النهضة الفكرية والتدوين، ومن أمثلتها (صول الدين وشفاء المؤمنين) لدانيال بن الحطاب السرياني في القرن الرابع عشر الميلادي، ويرد فيه على الانتقادات الإسلامية للمسيحية، وهي الفترة نفسها التي أشار إليها البابا بينديكت السادس عشر في محاضرته المشهورة إلى الجدل الذي داربين مثقف مسلم والإمبراطور البيزنطي، ومنها أيضا كتاب (البرهان على صحيح الإيمان) لمؤلفه مطران نصيبين النسطوري في عام 1222م، و(ترياق العقول في علم الأصول) للأسقف رشيد أبو الخير بن الطيب عام 1549م، ويبحث الكتاب في العقائد المسيحية والاسلامية وتفنيد الاعتراضات الاسلامية ضد المسيحية، ورسالة المطران ايليا عام 1225، ويعرض أدلة من القرآن الكريم والمصادر الاسلامية على صحة العقيدة المسيحية، إضافة إلى الأدلة العقلية، وكتاب (المصباح المرشد إلى الفلاح والنجاح الهادي من التيه الى سبيل النجاة) لمؤلفه أبو نصر التكريتي، وكتباً عدة تعرض حوارات وأسئلة وإجابات، منها محاورة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان مع النسطوري ابراهيم الطبراني.

وقد ترجمت معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية لأول مرة عام 1143م، وربما يشير هذا التاريخ إلى بداية تشكل العلاقات والحوارات الثقافية بين المسلمين والمسيحيين في الغرب، كما ترجمت بعد ذلك بفترة قصيرة مجموعة من الكتب والمصادر في السيرة النبوية والتاريخ العربي والإسلامي، ثم بدأت موجة من الكتب والدراسات الغربية التي تنتقد الإسلام وتحرض على المسلمين.وتظهر الدراسات والمخطوطات المحفوظة حتى اليوم في المكتبات الاوروبية نماذج من خطابات متبادلة بين الباباوات والسلاطين المسلمين، مثل رسائل إنوسنت الثالث (1198-1213)، ورسالة بابا الاسكندرية في سنة 1159، وكتب غريغور التاسع الى دمشق والمغرب وبغداد وتونس يقنع فيها حكام البلاد بالمسيحية.ويجد المستشرق الألماني هيربرت بوسة في كتابه (سس الحوار في القرآن الكريم، دراسة في علاقة الإسلام باليهودية والمسيحية) أن ثمة فرقا كبيرا كان في معاملة المسلمين لليهود والمسيحيين والقائمة على التسامح والتعايش والمواطنة الكاملة مقابل الاضطهاد المسيحي للمسلمين في أوروبا والبلاد التي يسيطرون عليها، ومن الأمثلة الشهيرة والواضحة حتى اليوم نماذج التعاون والاندماج بين المسلمين واليهود في الأندلس، والمناصب التي تولاها مسيحيون ويهود في دول المسلمين، وندرة ذلك بل وعدمه في أوروبا في تلك الفترات.ولكنا نلاحظ اليوم ومنذ القرن التاسع عشر مبادرات مسيحية عدة من الاهتمام بالإسلام والتراث الإسلامي والحوار الإسلامي المسيحي، وبدأت وجهة الحوار تأخذ الأبعاد المشتركة وآفاق العمل الممكنة وبخاصة في الفكر والاخلاق والاصلاح الاجتماعي، والحياة المشتركة، وتشجيع التدين بعامة، فالدين يمكن ان يكون مورداً للتنمية والسلام، وتستطيع المؤسسات الدينية والسياسية وبخاصة البلاد العربية وحوض البحر المتوسط ان تجعل من الدين عاملاً أساسياً في التعاون ومواجهة الأزمات والمشكلات بدلاً من الاستدراج الى العداوة والتطرف.زيارة البابا وإن كانت تبدو لتطوير علاقات الحوار والتعاون بين المسلمين والمسيحيين تستعيد مرة أخرى تلك الأجواء التي تشكلت في أعقاب محاضرة له ألقاها في ألمانيا، كانت محاضرة عن العقل والإيمان، ولكنها أشعلت حربا غير عقلية وغير إيمانية أيضا.

كيف أشعلت محاضرة للبابا عن (العقل والإيمان) موجة من الانتقادات والغضب وربما العلاقات السيئة بين المسلمين والمسيحيين أو الشرق والغرب؟ هل كان ذلك خطأ البابا أم خطأ الغرب المشحون بالاحتقار والكراهية للإسلام والمسلمين أم خطأ المسلمين المستفزين والشاعرين بالإهانة والغضب تجاه الغرب والمغيبين لقيم الحوار والدفع بالتي هي أحسن؟

وفي جميع الأحوال فإنها أزمة ليست متصلة مباشرة بالإسلام والمسيحية الديانتين اللتين تصدران عن (مشكاة واحدة) والمفترض أنهما تدعوان معا إلى الإيمان والعقل، وأنه مهما بلغ الخلاف بين أتباعهما فإنهما تتفقان على قيم الإيمان والتسامح والعلم والعقل، وأن الاختلاف بينهما كديانتين لا يصل ولا يجوز أن يصل إلى العداوة والقتال والكراهية، قال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون) وفي المجال الإسلامي فإن المسلمين (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)، ويرون أن الحروب والصراعات التاريخية والقائمة هي صراعات دول ومصالح وليست صراعات دينية وإن وظف الدين فيها.كان اقتباس في محاضرة أكاديمية فلسفية ألقاها البابا بينديكيت السادس عشر في جامعة بون، وهي في الأصل عن العقيدة المسيحية، ولم يكن ذكر الإسلام فيها سوى شاهد أو مثال ذكره البابا ليؤكد فكرة العقل والمنطق في الإيمان، ولم تكن دراسة للإسلام أو الجهاد، ولكنه على أية حال مثال غير موفق، ولم يكن البابا حذرا أو مدركا للعواقب السيئة لعرض هذا الاقتباس لإمبراطور بيزنطي من العصور الوسطى، هو في حالة حرب مع دولة إسلامية (تركيا) والتي زارها البابا مؤخراً، فهذا الاستحضار لأجواء الصراعات السياسية والعسكرية في العصور الوسطى في مرحلة جديدة مختلفة كليا لا يناسب (ربما) شخصا في موقع وعلم البابا، ولكنه خطأ وقع، وسيظل موضعا لجدال طويل ومؤلم ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين ولكن أيضا بين المسلمين أنفسهم في موضوع علاقتهم بالغرب والتي اختلطت فيها الصراعات والمصالح والتجارب التاريخية بالأديان والأفكار والثقافات حتى إنه بات من الصعب الفصل بينهما.بالطبع فإن المثقف الإسلامي العام يدرك تماما العلاقة بين الإيمان والعقل في الإسلام، والدعوة إلى الفكر والحوار، ويدرك الحقائق التاريخية القائمة على انتشار الإسلام بالدعوة والسلم وأن %80 من العالم الإسلامي القائم اليوم وصل إليه الإسلام وانتشر فيه عبر الزمن سلميا ومن خلال العلاقات التجارية والثقافية بين المسلمين وشعوب العالم، ويدرك أيضا الأثر العميق للرسالة الإسلامية ولشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الرقي بالبشرية وتطوير العلم والحضارة وتقدمهما في العالم، ويدرك أيضا المجازر والفظائع التي ارتكبها الغرب في جميع أنحاء العالم، من قتل بالجملة للأطفال والنساء، وإبادة شعوب بأكملها، وإلقاء القنابل النووية على مدن آهلة بالسكان، ولكن الأزمة ليست في المعرفة والجدال والحوار، وإنما هي سياسية بالدرجة الأولى تتعلق بإدارة المسلمين (حكومات ومجتمعات وأفرادا) لأزمتهم السياسية داخليا أو على صعيد علاقتهم بالآخرين، وتتعلق أيضا بالمصالح السياسية والاقتصادية في الغرب والتي تستمد من العداوة والكراهية للعالم الإسلامي دعما شعبيا وانتخابيا وحشدا ديماغوجيا يغطي على الفساد والفشل .