الإثنين11 ديسمبر2006

ماكس بوت

هناك الكثير من الوسائل والأشكال التي يمكن بواسطتها جعل وفاة شخص ما، تبدو كما لو كانت نتيجة لحادث أو انتحار أو لأي من جرائم الشوارع. غير أن هذه الطريقة لم تكن واردة في نوايا قاتل quot;ألكسندر ليفتيننكوquot; عميل الاستخبارات السوفييتية السابق، في العاصمة البريطانية لندن. فباستخدامه للنظائر المشعة المعروفة باسم quot;بلونيوم 210quot; وسيلة لتنفيذ الجريمة، إنما بعث برسالة تحذيرية واضحة لكل من تسول له نفسه اللعب بنيران النظام الحاكم في روسيا. ومن المرجح أن تظل مجهولة هوية هذا القاتل، غير أن كافة المؤشرات تجمع على أن اغتيال quot;ليفتيننكوquot; باستخدام هذه المادة السمية القاتلة، قد حدث بسبب الحملة التي نظمها القتيل ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجهاز quot;إف إس بيquot; الاستخباراتي الذي حل محل جهاز quot;كي جي بيquot; السوفييتي السابق. ولم يكن quot;ليفتيننكوquot; سوى آخر الضحايا الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لانتقادهم لعصبة بوتين الحاكمة. وتحوي قائمة كبار الشخصيات الروسية التي جرى اغتيالها للسبب نفسه خلال الأعوام الأخيرة الماضية، صحفيين جريئين من أمثال الصحفية quot;آنا بولتوكوفسكاياquot;، التي كان يحقق في حادثة مصرعها القتيل quot;ليفتيننكوquot;، وكذلك تضم عدداً من السياسيين والمديرين التنفيذيين والمسؤولين الحكوميين. أما الآخرون من أمثال الرئيس الأوكراني quot;فيكتور يوتشنكوquot;، فإما أنهم أفلتوا من محاولة اغتيالهم بمعجزة استثنائية كما حدث quot;ليوتشنكوquot; نفسه، أو جرى نفيهم أو إسكاتهم بتهديدات ممارسة العنف ضدهم، أو إثارة الاتهامات القانونية في وجوههم. أما الوسيلة المفضلة في هذه التهديدات القانونية، فهي تهمة التهرب الضريبي. وليس ثمة مثال أسطع على هذا، من الابتزاز القانوني الذي تعرض له رجل الأعمال الروسي ميخائيل خودوركوفسكي، الذي أفلحت عصبة بوتين، في الزج به إلى أحد سجون سيبيريا، وتجريده من ملكيته لشركة quot;يوكوسquot; النفطية العملاقة. وأياً تكن الجرائم والاتهامات الضريبية المثارة بحقه، فإن الجميع يدرك أن الجريمة الرئيسية غير المعلنة ضده، هي دعمه للمعارضة المناوئة لبوتين.
وما أن تولى بوتين مهامه الرئاسية في ظل ديمقراطية وليدة ناشئة في بلاده، حتى عمد خلال السنوات الست الماضية من رئاسته، إلى إحكام قبضته الشمولية على روسيا. وضمن ذلك، فقد توقف نظام انتخاب حكام الأقاليم والمحافظات بعد أن قرر الكريملن تعيينهم بواسطته. وفي الاتجاه نفسه جرى تعديل القوانين، بحيث يغدو من الصعب جداً على الأحزاب المعارضة الدخول إلى حلبة المنافسة. أما وسائل الإعلام والصحافة المستقلة، وكذلك كبريات الشركات العاملة في المجال، فقد جرى ابتلاعها جميعاً من قبل شركات تسيطر عليها الحكومة.
كما تساوق القهر السياسي الممارس داخلياً، بالسلوك المارق الغريب خارجياً. وليس أدل على هذا من محاولة روسيا استخدام وسائل الضغط الاقتصادي، بغرض إخماد الثورات الفتية في كل من جمهوريتي أوكرانيا وجورجيا، والإبقاء عليهما تحت إبط موسكو. وبالمثل نصبت روسيا نظام حكم أشبه بالدمية التي تحرك هي خيوطها كما تشاء في الشيشان. ويعرف عن روسيا الاتحادية تصديرها للأسلحة لكل من الصين وفنزويلا وسوريا وغيرها من الدول المعادية للولايات المتحدة الأميركية. والأكثر خطورة في هذا السلوك المارق، ابتياع روسيا لطهران مفاعلاً نووياً وصواريخ أرض- جو، بهدف حمايتها ضد أي ضربات محتملة على أراضيها. وفي الوقت ذاته تبنت روسيا موقفاً يقفل الطريق أمام فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على طهران.
وعلى الرغم من أن روسيا لا تعد عدواً صريحاً ومكشوفاً لأميركا، فإنها لا تصنف باعتبارها دولة صديقة لها بالقدر نفسه. فمشكلة بوتين أنه شديد التشبث بحنينه إلى ماضي الأمجاد الروسية العظيمة، وشديد الميل إلى استغلال الاستياء الغربي من سلوكه، ما يدفعه إلى إحكام قبضته وتوطيد أركان نظامه الشمولي. وفي المقابل فإن ما يفسر عجز واشنطن عن إحباط خططه هذه، هو طفو الكريملن فوق سطح بركة من روبلات النفط. لكن على رغم كل ذلك، فإنه لا يزال في وسع أميركا والغرب، إرغام هذا القيصر الروسي الجديد، على دفع ثمن سلوكه المارق هذا.
وأول ما تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون القيام به في هذا المنحى، الإسراع بضم كل من جورجيا وأوكرانيا وغيرهما من الجمهوريات المستقلة إلى التحالف الغربي، عبر إقامة التحالفات الثنائية معها وإبرام الصفقات التجارية، إضافة إلى توسيع عضوية حلف quot;الناتوquot; والاتحاد الأوروبي. وفي وسعنا زيادة تمويلنا لجمعيات المجتمع المدني الناشطة في روسيا. وما تضييق الكريملن على حريات هذه المنظمات والجمعيات، سوى تعبير عن خوفه من اندلاع ثورة شعبية ضده. ولذلك فإن الاستجابة الغربية الأفضل لهذه السياسات، هي ضخ المزيد من الأموال والأرصدة للجمعيات المذكورة، ولوسائل الإعلام والصحافة المستقلة.
كما يمكن للتحالف الغربي الإيعاز للشركات والأسواق المالية المستثمرة في روسيا حالياً، بلا جدوى استثمارها هناك. والمعلوم أن صناعات النفط والغاز الروسية، إنما تعتمد على الخبرة ورؤوس الأموال الغربية. ولاشك أن روسيا ستدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً فيما لو نجحنا في إبطاء أدائها في هذه الصناعات. وكل هذا يقع ضمن ما يمكن القيام به من وراء الكواليس. أما على مستوى النشاط العلني، ففي الإمكان مواصلة الضغط الدولي على بوتين، بهدف حرمانه من الحصول على الشرعية الدولية التي طالما تمناها. وفوق ذلك كله، فإن المطلوب من واشنطن أولاً أن تغير فكرتها عن كيفية التصدي لبوتين.


عن الإتحاد