د. محمد الرميحي
تذكرنا القمة الخليجية كل عام بقرب انتهاء السنة الميلادية. والقمة الأخيرة التي عقدت في الرياض ليست استثناء. الاستثناء الأهم فيها هو الإشارة إلى أن دول الخليج سوف تنظر في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية. وهي إشارة ديبلوماسية إلى الدخول في quot;العصر النوويquot; الذي يبدو أن العالم الثالث قد استقر أمره على الدخول في لعبته الخطرة وخاصة دول الشرق الأوسط.
كان يمكن مجلس التعاون أن يتحدث بوضوح أكثر حول قلقه العميق للتطورات المصاحبة لجهود الدولة الإيرانية الجارة في الموضوع النووي. قال ذلك متأخرا، وقال ذلك بشكل سلبي بدلا من أن يكون ايجابيا، فالولوج إلى العصر النووي ليس حلا عمليا ولا ديبلوماسياً لمواجهة الأخطار الضخمة المحتملة على المنطقة من صراع نووي ما قد يتفجر في الشرق الأوسط. والطاقة النووية ليست مطلبا ملحا في منطقة تفيض ببدائل الطاقة البديلة.
قبل أشهر قليلة قررت إسرائيل شراء غواصة فرنسية قادرة على حمل رادع نووي، قيل انه سوف يستخدم في quot;الضربة الثانيةquot; للرد على الضربة الأولى إن تم الهجوم عليها بهذا السلاح في المستقبل. كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي تحدث عن quot;الموضوع النوويquot; الإسرائيلي أخيرا، وأثار حديثه لغطا في الرأي العام الإسرائيلي على انه أفشى احد أهم أسرار الدولة وأدقها. في مصر جرى الحديث منذ أسابيع وبقوة غير مسبوقة عن الاستخدام النووي السلمي. في الجانب الإيراني القصة أشهر من أن تكرر، فالصراع الدائر اليوم بين الغرب وإيران هو حول هذا الموضوع بالذات وباقي الخلافات تفاصيل ثانوية.
قلت ما تقدم لان جيلا كاملا في الغرب عاش تحت quot;التهديد النوويquot; وكان خبزه ومرقه اليومي ذلك الخوف الدائم من التهديد بنشوب حرب نووية بين الشرق والغرب، تصبح الحروب التي عرفتها الإنسانية في تاريخها السابق كله quot;لعب أطفالquot; بالنسبة اليها. وقد بنيت المخابئ العميقة، ونشرت الكتب، وصيغت السياسيات واعدت الجيوش لمواجهة ذلك الرعب النووي الذي لم تستطع الحضارة الغربية بكل ما أوتيت من قوة علمية أن تخترع رادعا حقيقيا له. فعندما تبدأ حرب نووية فإنها لا تبقي ولا تَذَر حسب التعبير العربي العميق.
ذلك الخوف الذي صيغت حوله لفترة نصف قرن تقريبا كل السياسات الغربية تجاه الآخر (الاتحاد السوفياتي وقتها) وسميت تلك السياسات الحرب الباردة ينتقل إلى الشرق الأوسط، وبالتحديد المنطقة العربية وفي بؤرتها الخليج. فالتخوف من القوة النووية الإيرانية هو تخوف ذو شقين الأول عسكري واقعي، والثاني سياسي.
إذا أخذنا الأمور بشكلها السطحي، فالقول بأن إيران تتسلح نوويا ردا على التسلح الإسرائيلي، يجد صدى ايجابيا لدى العربي. فالشارع العربي ضاق ذرعا بهول ما يلاقيه أخوه الفلسطيني من عنت وقتل وتشريد وحرمان من الإنسانية في ابسط حقوقها. والأحداث الاخيرة في فلسطين تثير أي عاقل حصيف. فقد تم نشر صور على نطاق واسع لعملية قتل امرأة فلسطينية في بيت حانون، ليس بيدها سلاح غير حقيبة بلاستيكية للمشتريات القليلة التي تحملها سدا لضائقة أسرية. وكان القتل متعمدا، أما وجبة القتل الثانية التي اعتذرت إسرائيل عنها وراح ضحيتها ثلاثون من العرب الفلسطينيين، وكان الاعتذار أقبح من الذنب نفسه، فقد قيل انها كانت بسبب quot;خطأ راداريquot; !! وبصرف النظر عن الحرب الأهلية الوشيكة بين الفلسطينيين أنفسهم، فان هذا القتل الإسرائيلي اليومي يجعل من الشارع العربي يسارع إلى تأييد أدنى احتمال لتوظيف قوة ما في وجه هذا الصلف، ولو كانت هذه القوة quot;قوة نووية إيرانيةquot;.
في هذه المعادلة فإن الحديث الخليجي حول quot;نزع السلاح النوويquot; من الشرق الأوسط، أو حتى quot;استخدام التقنية النووية في الأغراض السلميةquot; كناية عن استحواذ قدرة فنية للتصرف بها في المستقبل. كل ذلك هو هروب للأمام. لأنه إذا نشبت من ذلك النوع الذي تخوفت منه شعوب الغرب في الخمسين سنة الماضية وارتعدت فرائصها من شتاء نووي، إذا نشبت تلك الحرب في مجالنا الحيوي العربي، وفي قلبه مدن الخليج المفتوحة والخالية حتى من الحد الأدنى من أية مظاهر الحماية، فان ذلك يحول المنطقة دماراً لا تقوم بعده روح إنسانية واحدة توحد الله.
إذا الموضوع خطير ومهم وأولي في السياسة العربية والخليجية على وجه الخصوص، لان المسألة هي مسألة بقاء أو فناء وليس بينهما وسط يرتجى. والمسألة المهمة التي يجب أن تطرحها الشعوب. تُرى ما العمل في جو قاتم مثل هذا؟ جو يلبده الصلف الإسرائيلي من جهة والمشروع الإيراني النووي الغامض الأهداف من جهة أخرى، الثاني يتغذى على الأول في حشد الرأي العام العربي لجهة مشروعه، والثاني يضرب عرض الحائط أدنى تنفيس لشعب يتحول دمه ماء وإنسانيته شبه حيوانية.
وتبقى دول الخليج في وضع لا تحسد عليه، فهي مهددة وشعوبها قابلة للتدمير من جهة، وفاقدة للسند الشارعي quot;المخطوفquot; للقيام بأية مساعي لقول كلمة سواء للجارة إيران.
مثل هذا الجو الخانق تحتاج السياسة إلى ابتكار خارج الشكل التقليدي، وخارج إغماض العين أو التخفيف من المخاطر الآنية بزيادتها. في المستقبل، الوضع النووي في المنطقة خطير إلى درجة انه يحتاج إلى مناقشة موضوعية.
الفشل الديبلوماسي الواحد بعد الآخر بين إيران والأوروبيين والأميركيين ينذر بخطر داهم. والتقارير العملية المنشورة والموثقة من قبل خبراء في الطاقة النووية تقول إن السباق هو سباق زمني. فإيران تريد أن يصبح المفاعل في بوشهر quot;ساخناquot; بالسرعة اللازمة، أي مجهزاً والعالم يطلب من القوى الأوروبية الأميركية التريث لعل حلا وسطا يمكن أن يُتوصل إليه في المستقبل القريب. الخطورة علينا في الخليج انه متى ما أصبح المفاعل الإيراني quot;ساخناquot; فان أية ضربة عسكرية جراحية قد تكون مفيدة من الناحية العسكرية للمصالح الغربية، حيث إجهاض ذلك الاحتمال يبعد الخطر عنهم، ولكنها سوف تجعل من الشتاء النووي في الخليج حقيقة مؤكدة، فتساقط الإشعاع النووي من عمل كهذا سيحقق كارثة، ويكفي أن نتذكر كارثة تشيرنوبيل عام 1986 التي دمرت مئات آلاف من الأنفس البشرية وما زالت تفعل.
من دون تفكير جدي بالحديث مع الجارة إيران حول المخاطر الممكنة والفرص المتاحة، بعقل وقلب مفتوحين بعيدا عن الشعارات السياسية، فان الخيار الذي احتضنته القمة الخليجية هو خيار غير مجد في تخفيف المخاطر الحقيقية على سكان المنطقة. الأمر الذي يحتاج إلى شجاعة في مواجه الحقائق وإعادة النظر في ما يجري من قبل الدفاع عن المصالح المشتركة.
- آخر تحديث :
التعليقات