طلال سلمان

أكثر كلمة يستخدمها اللبنانيون خصوصاً والعرب عموماً هذه الأيام هي كلمة laquo;حوارraquo; ومعها مشتقاتها أو منتجاتها مثل laquo;الوحدة الوطنيةraquo; وlaquo;الوفاقraquo;، وبالاستطراد laquo;حكومة الاتحاد الوطنيraquo; وصولاً إلى laquo;العودة إلى الشعبraquo; لكي يقول كلمته!
.. ولأن laquo;الحوارraquo; متعذر بالإنكليزية أو بالفرنسية أو بالألمانية أو بالإيطالية أو حتى بالروسية، التي تمّ اكتشافها مؤخراً، فلا بد من اعتماد laquo;العربيةraquo; لغة، ولا بد من العودة إلى الواقع السياسي بقواه الفعلية، خصوصاً وقد شهدت الشوارع عرضاً حياً لتمثيلية هذه القوى laquo;المتخاصمةraquo;، والتي امتنعت عن التلاقي وعن محادثة بعضها البعض مباشرة، وكأن بينها laquo;عداءً تاريخياًraquo;، مع أنها كانت إلى قبل شهور قليلة في مواقع laquo;الحلفاءraquo;.

وليس لإفشال مهمة عمرو موسى في بيروت، وهو المحاور الممتاز وذو السمعة الطيبة عربياً، وصاحب الموقع الشرعي لمثل المهمة المطلوبة منه في إعادة وصل ما انقطع بين الأطراف المتخاصمين بل والمتقاطعين الآن، إلا معنى واحداً هو التسبّب في تحويل الخلاف السياسي إلى مشروع للحرب الأهلية أو الفتنة العمياء.

مَن يتسبّب في إفشال هذه المهمة الضرورية لأمين عام جامعة الدول العربية، سيتهم في حرصه على سلامة وطنه، ككيان سياسي، وسلامة شعبه، لأنه بذلك سيفتح الباب لتدخل laquo;الدولraquo; على مصراعيه، بينما طالبو هذا التدخل الأجنبي والذين يفترضون أنه قد يعينهم على إحراز laquo;النصرraquo; على أهلهم وشركائهم في الوطن، ما زالوا يترددون أو يتهيّبون أو يتخوّفون من طلب مثل هذه النجدة... القاتلة!
ومهمة عمرو موسى laquo;وحدويةraquo; بالضرورة، بمعنى أنها تنطلق من البديهيات: وحدة لبنان شعباً ودولة، بانتمائه العربي الأصيل الذي لا تطاله الخلافات بين قواه السياسية. وهو يستعين على إنجاز هذه المهمة بالعرب أساساً، ومن هنا كانت زيارته بطلب الدعم من السعودية، وكذلك ستكون زيارته لطلب الدعم من سوريا، مع وعيه بصعوبة laquo;العزلraquo; بين مهمته وبين حالة البرودة التي تسود العلاقة بين الدولتين اللتين طالما شكلتا مع مصر مشروع laquo;جبهةraquo; عربية تطمح لوقف الانهيارات في الموقف العربي.

لكن الزيارتين، بنتائجهما، تشكلان امتحاناً للدولتين اللتين كانتا شريكتين في مواجهة أزمات عديدة، بعضها يخص لبنان وبعضها الآخر ما يتجاوزه إلى ما هو أبعد منه عنهما.
... ولقد تعوّدنا أن يعلن أصحاب الشأن عجزهم عن حل الأزمات التي طالما دهمت الأوضاع العربية، فتدور هذه الأزمات على laquo;عواصم القرارraquo; ـ وأولها واشنطن ـ فتستدعيها وتوسّع لها مساحة laquo;التدخلraquo; مضفية عليه مشروعية النجدة بل... الإنقاذ!

وها هي فلسطين الممزقة نتفاً بالاحتلال الإسرائيلي والمجوّعة بالحصار الدولي لتأديب شعبها على ممارسته اللعبة الديموقراطية في اختيار حكومته التي وُلدت عاجزة وعاشت حتى لحظة الانفجار الراهنة كأنما في سجن بلا زوار وبلا أهل يزوّدون شعبها (السجين) بالقليل القليل، كالقوت والدواء، مثلاً..
لم ينفعها تدخل laquo;الدولraquo; إلا في نقل المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي إلى صراع على السلطة بين laquo;رئيسraquo; تستقبله laquo;الدولraquo; جميعاً ولا تعــطيه إلا بقدر ما يتنازل، وبين laquo;حكومةraquo; لا تستقبلها إلا قلة قليلة ممن تسميها واشنطن laquo;الدول المارقةraquo; فتعطيها ما يمتنع عليها إدخاله إلى شعبها المحاصَر...

وكان بديهياً أن ينفجر الوضع الشاذ الذي يضيق على الشعب الفلسطيني الأسير بخلافات قياداته وعجزهم عن التوافق والتفاهم على برنامــج إنقاذ وطني يكاد يكون الآن شرط حياة... بينما إسـرائيل التي تواصــل مطاردة المجاهدين المحاصرين لقتلهم، تفتح الباب واسعاً أمام laquo;الرئيسraquo; لتحوّل الخلاف مع laquo;حكومتهraquo; إلى اقتتال في الشوارع بين الذين كانوا قد نذروا دماءهم لتحرير الأرض والإرادة.
أما العراق تحت الاحتلال الأميركي فإن الخلافات بين قياداته السياسية قد استدرجت الفتنة فكادت تغرقه بدماء أبنائه، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، يقتلون جماعات جماعات ويحملون إلى المقابر فيدفنون بلا شواهد، لأن منظمي المذابح لا يهتمون للأسماء والأنساب بل للأعداد فقط... حتى لكأنهم يقبضون على الرأس!

٭ ٭ ٭

في بلاد الله يكون الاختلاف بين القيادات السياسية على برامج وخطط من أجل تقدم أسرع، واقتصاد أمتن، وطمأنينة أثبت، ومستقبل أكثر إشراقاً للأجيال الجديدة ولو تحمّل الآباء ثمن رفاه أبنائهم والأحفاد..
أما في بلادنا فالاختلاف الذي بدأ سياسياً قد وجد من laquo;الدولraquo; جهوداً معلنة لتحويله إلى فتنة بينما laquo;الحلraquo; قد تصاغر حجماً من دون أن يفقد معناه الأصلي: إنه توكيد على إرادة تدعيم الوحدة الوطنية بحكومة من طبيعتها.
فلينظر اللبنانيون إلى أخوانهم من حولهم، وما عاد به عليهم تدخل laquo;الدولraquo;... وليسهّلوا لعمرو موسى مهمته التي صوّرت ـ بالمبالغة أو ربما بتفضيل laquo;الصديقraquo; على laquo;الشقيقraquo; ـ وكأنها مستحيلة، بينما يكفي لنجاحها الحد الأدنى من الاهتمام بمصير laquo;الدولةraquo;، وبمستقبل مواطنيها الذين ينامون في قلب مخاوفهم وهمومهم التي تتزايد أثقالاً كل يوم!