محمد السمّاك


من سوء الحظ ان رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير يقوم بأهم وأقدس مهمة سياسية في الشرق الأوسط بعد ان فقَدَ صدقيته كوسيط نزيه بين العرب والإسرائيليين.
وقد تكرّس فقدان هذه الصدقية في العراق حيث لعب دور التابع للرئيس الاميركي جورج بوش في اختلاق أسباب الحرب وفبركة مبرراتها التي ثبت انها كانت كاذبة كلها. وتكرس في لبنان حيث مارس مع الرئيس بوش ايضاً ومن خلفه دور المحرض والمشجع لإسرائيل للمضي قدماً في حربها الهمجية المدمرة التي استمرت ثلاثة وثلاثين يوماً.

وهو مكرس اساساً في فلسطين حيث مارس دور الشيطان الأخرس، الساكت عن الحق، في تغطية الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والضفة الغربية.
من اجل ذلك فانه اذا كان للرئيس البريطاني من موقع يتبوأه في الشرق الأوسط، فهو قفص الاتهام لارتكابه مباشرة ولتشجيعه إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في لبنان وفلسطين والعراق.

والغريب ان الرئيس طوني بلير يتمتع بقدر من الجرأة بحيث ينأى بنفسه عن قفص الاتهام، ويضع نفسه في موقع القاضي الذي يبحث عن العدالة بين العرب والإسرائيليين.
من هنا السؤال: هل يعقل ان يكون الخصم هو الحكم في الوقت نفسه؟.. وهل يعقل ان يثق العرب بنواياه ومساعيه؟ وهل يعتقد ان العرب وصلوا الى درجة من الافلاس الى حد قبول وساطته السياسية؟
يعرف الرئيس بلير ان لبريطانيا تاريخاً أسود في الشرق الأوسط. وهو يعرف ايضاً ان العرب لُدغوا من جحر الوعود البريطانية الكاذبة اكثر من مرة. ومع ذلك فهو يعتقد انه قادر على لدغهم مرة جديدة وفي هذا الوقت بالذات الذي لا يزال دم الأبرياء العراقيين يسيل مدراراً في شوارع بغداد والبصرة وكركوك والنجف وسواها من المدن بذريعة إدخال العراق الى واحة الديمقراطية !!.

فاذا كان العراق قد تمزق باسم الديمقراطية وتحول الى مسلخ يذبح فيه الانسان على الهوية، فماذا يكون مصير الدول العربية الاخرى اذا انطلت عليها كذبة المساعي البريطانية ـ الاميركية؟.
هناك فرق كبير بين الادعاء بأنه لا حل الا عن طريق الولايات المتحدة وبريطانيا، وبين الادعاء بأنه لا حلّ الا الحل الاميركي ـ البريطاني.

لقد جرت عدة محاولات للحل منذ مؤتمر مدريد حتى خارطة الطريق التي اعتمدها الأربعة الكبار، روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والامم المتحدة. ولكن كل تلك المحاولات بأت بالفشل، ليس لعيب بنيوي فيها، انما لمجرد مشاركة الآخرين فيها. وهي مشاركة جرّدت الولايات المتحدة (مع ملحقها البريطاني) من ان تكون وحدها صاحبة الحل والربط. ومن الواضح ان مبادرة الرئيس بلير الحالية تنطلق من هذه الحصرية الاميركية ـ البريطانية، باستبعادها القوى الدولية الاخرى. ومن الواضح ايضاً ان الرئيس البريطاني يعتمد على أمرين متكاملين لتحقيق ذلك، هما تعاون إسرائيل من جهة والعجز العربي من جهة ثانية.

لا يتوقع بلير ان يسمع quot;لاquot; من مسؤول عربي. فـquot;لولا التشهّد كانت لاؤه نعمquot;. وهو لم يسمعها الا في الشارع. فالنعم التي تصدر عن المسؤول العربي تعبّر عن العجز أكثر مما تعبر عن الرضى والقبول. والـquot;لاquot; في الشارع العربي تعبّر عن اليأس أكثر مما تعبّر عن القدرة على التغيير.

وهكذا تبدو المعادلة على الشكل التالي:

ـ وسيط بريطاني مطعون في صدقيته، موفد من رئيس اميركي عدائي من الدرجة الأولى.
ـ قبول رسمي عربي بالوساطة هو من نوع قبول العاجز المتلهف الى أي حلّ.
ـ ورفض شعبي للوساطة وللوسيط البريطاني وللرئيس الاميركي الذي أوفده قياساً على مواقف عدائية سابقة وراهنة من القضايا والحقوق العربية.
ـ صلف إسرائيلي واستقواء بالضعف العربي وبالترسانة النووية وبالدعم المالي والسياسي الاميركي.
فأي حلّ يمكن ان يخرج من رحم هذه المعادلة؟..
لا شك في ان بريطانيا قادرة على ان تلعب دوراً بنّاءً في الشرق الأوسط. ولا شك في ان الرأي العام البريطاني يشعر بعقدة ذنب بسبب ما ألحقته حكوماته السابقة من كوارث في هذه المنطقة من العالم. ولكن لا يبدو ان الرئيس الحالي طوني بلير هو الشخص المؤهل للقيام بهذا الدور.. بل لا يبدو انه في الاساس مؤمن به. اما لماذا يقوم بالمبادرة ، فان الجواب مع الأسف هو عند الرئيس الاميركي جورج بوش.