تقرير واشنطن

يعتقد ريتشارد هاس، رئيس قسم تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية السابق، والرئيس الحالي لـ quot;مجلس العلاقات الخارجيةquot; Council on Foreign Relations، وهو أحد أهم مراكز الأبحاث بواشنطن، أن تطبيق الإدارة الأمريكية لجميع ما جاء في تقرير quot;بيكر- هاميلتونquot; حول العراق لا يضمن بالضرورة نجاح المشروع الأمريكي في العراق، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن التقرير يقدم من الناحية العملية أفضل فرصة ممكنة لتحقيق تقدم، وذلك في ظل محدودية البدائل العملية الأخرى المتاحة. يعرض تقرير واشنطن نص حوار أجراه معه برنارد جويرتزمان من مجلس العلاقات الخارجية حول مضمون التقرير، فيما يلي نصه.
سؤال: لقد أصبح تقرير quot;بيكر- هاميلتونquot; تقريرا معلنا. ما هي انطباعاتك العامة حول هذا التقرير؟ ألا ترى أنه تقرير quot;قاسquot; وquot;كئيبquot;؟
ريتشارد هاس: الانطباع الأول الذي يتبادر إلى ذهني عند قراءة التقرير هو أنه تقرير quot;هادئ وواقعيquot; يعكس فهما دقيقا لاتجاهات تطور الأزمة العراقية والموقف الحقيقي في العراق، ويدرك ما تستطيع أن تقوم به الولايات المتحدة في العراق، ويدرك أيضا التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تترتب على فشل الولايات المتحدة في العراق. ولذلك تستطيع أن تصفه كما ترى، ربما تراه quot;كئيباquot; وربما تراه تقريرا واقعيا هادئا، ولكني أرى أنه يتسم بدرجة من المصداقية والواقعية.
سؤال: دعنا نفترض أنك في البيت الأبيض، وأن التقرير على مكتبك، ما هو رد فعلك إزاء ما جاء في التقرير؟ فالتقرير يدعو إلى بعض الأفكار التي لازالت ترفضها الإدارة الأمريكية الراهنة، خاصة الحوار مع سوريا وإيران ووضع جدول زمني لسحب القوات العسكرية من العراق.
ريتشارد هاس: التقرير يمثل خروجا عن السياسة الراهنة للإدارة الأمريكية. ولكنه من ناحية أخرى، لا يطرح خيارات تتمتع بالرفض الشديد من جانب تلك الإدارة. وعلى سبيل المثال، فإن التقرير يرفض فكرة quot;الانسحاب الفاشلquot; التي تعارضها الإدارة الأمريكية بشدة. إذا كانت الإدارة الأمريكية إدارة حكيمة فيجب ألا يقتصر موقفها من التقرير على مجرد شكر المجموعة التي قامت بإعداده على نحو ما فعل الرئيس الأمريكي بالفعل بعد صدور التقرير، ولكن يجب أن تقوم بتطبيق جزء كبير من الأفكار والسياسات المقترحة في التقرير. وتستطيع الإدارة الأمريكية أن تقول أن التقرير يتفق مع التغييرات التي تقوم الإدارة باتخاذها بالفعل، وأنه يتفق مع نتائج المراجعات الداخلية التي تتم على مستوى الإدارة ذاتها؛ فأجزاء كبيرة من التقرير تتفق مع ما جاء في مذكرات رامسفيلد التي نُشرت قبل أيام من صدور تقرير quot;بيكر- هاميلتونquot;. ومن ثم، فإنني أوصي الإدارة الأمريكية بتطبيق معظم ما جاء في التقرير. ولكنني أؤكد في الوقت ذاته أن تطبيق كل ما جاء في التقرير لا يمثل ضمانة لنجاح الإدارة الأمريكية في العراق، ولكنه يقدم أفضل فرصة ممكنة لتحقيق تقدم.
سؤال: هل يمكن أن توضح لنا ما الذي يتفق في التقرير مع مذكرات رامسفيلد؟
ريتشارد هاس: أهم عناصر الاتفاق بين التقرير ومذكرات رامسفيلد هي الاستنتاجات والخلاصات التي طرحها كل منهما، كما أن معظم الأفكار والبدائل التي طرحها رامسفيلد في مذكراته، حول إعادة توجيه القوات الأمريكية في العراق، وتخفيض مستوى تلك القوات، تجدها أيضا في التقرير.
سؤال: لقد دعوت أنت نفسك الإدارة الأمريكية، في حوارات سابقة وفي مناسبات أخرى عديدة، إلى إجراء حوار مع سوريا وإيران، وها هو تقرير quot;بيكر- هاميلتونquot; يؤكد بشدة على أهمية هذا الحوار بالإضافة إلى ضرورة الوصول إلى اتفاق إسرائيلي- فلسطيني. والواقع أن كل شخص في الشرق الأوسط يميل إلى الاتفاق مع تلك الدعوات، ولكن السؤال هو كيف يتم تطبيق تلك الأفكار بشكل عملي؟
ريتشارد هاس: يجب أولا أن نفرق بين مسألة الحوار مع إيران وسوريا من ناحية، والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من ناحية أخرى. اعتقد أننا في حاجة إلى آلية إقليمية ما لتنظيم الحوار مع إيران وسوريا، على أن يتم ذلك من خلال دعوة من جانب الحكومة العراقية ذاتها أو من خلال الأمم المتحدة، ولكن من الأفضل ألا تقوم الولايات المتحدة نفسها بتشكيل تلك الآلية أو تنظيم هذا الحوار. كان التقرير محقا عندما أكد على وجود مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة وكل من سوريا وإيران رغم الخلافات المهمة بين الجانبين. مرة أخرى، يجب القول أن تنظيم هذا الحوار لا يمثل ضمانات قوية لحدوث تغيرات جوهرية على الساحة العراقية، ولكن هذا لا يقلل من أهمية هذا البديل، خاصة أنه لا توجد بدائل عملية أخرى كثيرة. فلماذا لا نحاول اختبار هذا البديل؟ أيضا كان التقرير ذكيا عندما أكد على ضرورة الفصل بين الحوار مع إيران ومشكلة البرنامج النووي الإيراني الذي يتم إدارته عبر أطر وآليات أخرى مستقلة عن هذا الحوار، وعندما لم يعتبر إنجاز تقدم على صعيد مشكلة البرنامج النووي شرطا مسبقا بأي شكل من الأشكال للتعاون الأمريكي- الإيراني في العراق.

أما فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط، فإن الأمر مختلف. نفترض أنه تم تحقيق إنجاز على صعيد المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، هل سينعكس ذلك بالضرورة على الوضع في العراق؟! اعتقد أن هذا لا يعني كثيرا بالنسبة لمستقبل العراق؛ فالذين يقومون بقتل الناس في العراق لا يفعلون ذلك من أجل إقامة الدولة الفلسطينية.
ولكن هذا لا ينفي أهمية التركيز على عملية السلام في الشرق الأوسط، فالتركز على عملية السلام يظل مهما لسببين رئيسيين: الأول أن الاهتمام بعملية السلام يمثل أحد المداخل الممكنة لتشجيع سوريا على القيام بدور إيجابي مساعد في العراق، خاصة فيما يتعلق بإغلاق حدودها مع العراق في وجه عناصر القاعدة والمتشددين. العامل الثاني أن الاهتمام بعملية السلام يمثل الآن أحد المداخل المهمة التي يمكن من خلالها للولايات المتحدة تحسين علاقاتها وصورتها لدى قيادات المسلمين العرب السنة، خاصة في مصر والمملكة العربية السعودية والأردن وغيرها من الدول العربية، الذين يشعرون بالغبن والقلق بشأن مستقبلهم السياسي في المنطقة. وبهذا المعنى، فإن تحقيق إنجاز ملموس على صعيد هذا الصراع سوف يمثل أحد مداخل تحسين العلاقات الأمريكية مع قيادات المسلمين السنة. واعتقد أن هذه الأسباب تمثل الدوافع العقلانية الأساسية وراء تركيز التقرير على مسألة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
سؤال: لقد أجريت حوارا من قبل من أحد اللبنانيين المعارضين لسوريا، والمعنيين بالأزمة اللبنانية، قال أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تتعامل مع سوريا لأن سوريا ستطالب في هذه الحالة بإسقاط قضية اغتيال الحريري والاتهامات الموجهة إلى قيادات ومؤسسات سورية بالضلوع في تلك الجريمة، ولكني تحدثت بعد ذلك مع السفير عبد الرؤوق الريدي، رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية، وهو مسلم سني، الذي أكد على ضرورة الحوار الأمريكي مع سوريا.
ريتشارد هاس: مرة أخرى أؤكد لك أن الحوار مع سوريا ليس مسألة مستحيلة، كما أنه ليس مسألة عديمة الجدوى. ففي عام 1990 شاركت سوريا في تحالف quot;عاصفة الصحراءquot;، وهناك أيضا مبادرات دبلوماسية ناجحة مع سوريا. إذا استطعنا إقناع سوريا بإغلاق حدودها مع العراق، هذا سيسهل مهمة الولايات المتحدة في العراق إلى حد كبير، وإذا استطعنا إقناع سوريا بوقف دعمها لحزب الله وحماس، سيترتب على ذلك نتائج إيجابية ضخمة في لبنان وفي فلسطين. لذلك من مصلحة الولايات المتحدة استكشاف بديل الحوار مع سوريا.
سؤال: هذا فيما يتعلق بسوريا، ولكن بالنسبة لإيران لا توجد خبرة مهمة من الحوار بين الولايات المتحدة وإيران، باستثناء محادثات محدودة حول أفغانستان في بداية الحرب ضد القاعدة وطالبان. من أين يبدأ الحوار مع إيران في رأيك؟
ريتشارد هاس: في رأيي نقطة البداية الصحيحة أن يتم هذا الحوار في إطار حوار متعدد الأطراف كما حدث في حالة الحوار بشأن أفغانستان. يمكن أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة للحوار معها حول العراق. ويمكن أن يضم الحوار في هذه الحالة دول الجوار الإقليمي للعراق، والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعدد محدود من الدول الأخرى، وذلك على غرار تجربة صيغة المحادثات السداسية المعنية بإدارة أزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية. الحوار الأمريكي الإيراني في إطار صيغة إقليمية لا يعني بالضرورة إجبار الإدارة الأمريكية على تغيير سياستها الراهنة تجاه إيران ومشكلة البرنامج النووي الإيراني، بحيث لا يتم الانتقال إلى صيغة المحادثات الثنائية المباشرة إلا إذا قامت إيران أولا بتجميد برنامجها النووي. صيغة المحادثات الإقليمية حول العراق تسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على استقلالية مشكلة البرنامج النووي الإيراني بعيدا عن المسألة العراقية، وبشكل يضمن عدم اعتماد التقدم في الحوار حول العراق على مشكلة البرنامج النووي. بمعنى آخر، إننا نريد تحقيق تقدم في المشكلتين معا، ولكننا لسنا في حالة من الترف تسمح لنا بربط التقدم في إحداهما بالتقدم في الأخرى، أو على حسابها.
سؤال: لقد قال على لاريجاني، مسئول الأمن القومي الإيراني، إن إيران على استعداد للمساعدة في العراق إذا طرحت الولايات المتحدة جدولا زمنيا للانسحاب من العراق. الآن quot;تقرير بيكر- هاميلتونquot; يطرح بشكل أو بآخر جدولا زمنيا للانسحاب، هل يمثل ذلك شرطا كافيا لتعاون إيران في العراق؟
ريتشارد هاس: اعتقد، أولا، أن إيران قد حققت مكاسب استراتيجية من التورط الأمريكي في العراق. كما اعتقد، ثانيا، أن إيران سوف تدفع ثمنا ما في حالة انسحاب القوات الأمريكية بسبب ما قد يترتب على ذلك من تكريس انهيار وفشل الدولة في العراق، وتدفق أعداد ضخمة من اللاجئين العراقيين داخل إيران. ولذلك، فإنني لازلت لا أفهم الإصرار الإيراني على الانسحاب الأمريكي من العراق، ولماذا تصر على ربط سلوكها المستقبلي وتعاونها المحتمل مع الولايات المتحدة بمسألة الانسحاب، هذه بالنسبة لي معادلة صعبة الفهم.

أود أخيرا أن ألفت الانتباه إلى ملاحظتين مهمتين في قراءتنا للتقرير: أولا أن هناك جزء مهم في التقرير لم نوله اهتماما كافيا، وهو الرسالة الموجهة إلى الحكومة العراقية ذاتها. التقرير يقول إن الالتزامات الأمريكية في العراق ليست مسألة مفتوحة بلا نهاية. إذ يقول في هذا السياق، أنه إذا فشل العراقيون في الاضطلاع بمسئولياتهم، خاصة في مجال المصالحة الوطنية والحكم والقوات العسكرية العراقية، فإن الولايات المتحدة لن quot;تتسكعquot; كثيرا is not going to hang over في العراق.
اللافت للنظر هنا أن التقرير يمهد الطريق هنا لإمكانية خروج الولايات المتحدة من العراق في حالة فشل العراقيين أنفسهم في تحمل مسئولياتهم، حيث يحمل التقرير الحكومة العراقية والعراقيين أنفسهم نصيب الأسد من المسئوليات والأعباء. وبمعنى آخر، يريد التقرير أن يقول quot;إن الولايات المتحدة قد ذهبت إلى أبعد حد، وأن الفشل يجب ألا يُلقى على عاتق الولايات المتحدة. إنه بسبب عدم قدرة العراقيين على القيام بواجبهمquot;. إنها بداية جهد لتشكيل، أو السيطرة على، الروايات والتفسيرات المتنافسة التي قد تظهر فيما بعد حول لماذا فُقدت العراق؟ إذا ما حدث ذلك بالفعل. أتمنى ألا يحدث ذلك، ولكنني اعتقد أن ما ذهب إليه التقرير هنا يمثل مقدمة لاستراتيجية دفاعية أو وقائية ضد الروايات التي قد تُحمل الولايات المتحدة المسئولية الكاملة في حالة تحقق هذا السيناريو.

الملاحظة الثانية: أننا أغفلنا نقطة مهمة أخرى في قراءتنا للتقرير، لقد ركزنا على ما جاء في التقرير حول العراق، وأغفلنا نقطة أخرى مهمة وهي دعوة التقرير إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية، نلمس ذلك في دعوة التقرير إلى تقليل الاعتماد المكثف على القوة العسكرية، وإعادة الاهتمام بعملية السلام في الشرق الأوسط، والحوار مع دول مثل سوريا وإيران التي اُعتبرت جزءا من quot;محور الشرquot;، كما نلمسه في دعوة التقرير إلى الالتزام بالمنهج متعدد الأطراف في العلاقات الدولية، والتعاون بين الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي). إذا أخذنا كل ذلك في الاعتبار، يمكن القول أن التقرير يدعو إلى إجراء تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية وإعادة توجيه تلك السياسة. وهكذا، فإن التقرير يتجاوز المسألة العراقية، إنه يدعو بشكل أو بآخر للعودة إلى الاعتدال.