الخميس 28 ديسمبر2006


'شهر كرد'.. رحلة الشتاء التي لا تنسى

شهر كرد - أحمد ناصر، القبس

يذهب أحدنا بعيدا عندما يبحث عن مكان جميل يقضي فيه بعض الوقت، ولكنه لا يفكر أو لا يخطر في ذهنه أن هذا المكان ربما يكون في متناول يده وقريبا جدا منه، هذا ما حدث معي عندما قررت أن أقضي عدة أيام في مكان جميل ووقع اختياري على مدينة شهر كرد في إيران.
طائرة صغيرة لا يتجاوز عدد ركابها خمسين راكبا، كانت هي التي ستنقلنا إلى مطار شهر كرد الصغير، والمفاجئ بالنسبة لي أن الرحلة الى هناك مباشرة دون أن تتوقف في أي مطار آخر، والحمد لله أن الرحلة كانت صباحا.. وكان التحليق فوق مناظر رائعة الجمال جعلت من الرحلة متعة لا تفوت وكأننا نشاهد معرضا للفن التشكيلي ونحن نشاهد تحتنا الطبيعة الساحرة بين جبال ووديان، وبعد 45 دقيقة في التحليق في الأجواء الإيرانية وصلنا الى المطار.. كان مطارا صغيرا جدا لا تتجاوز المسافة بين باب الطائرة وبوابة الخروج أكثر من خمسين مترا وكأن المسافر يدخل من باب ويخرج من الآخر.
بدولار واحد فقط حملني التاكسي وحقائبي إلى الفندق الذي لم يكن بعيدا عن المطار، ولكن الطرق الملتوية تجعل المسافة بعيدة، كنت أتوقع أن يكون فندقا متواضعا كعادة المدن الصغيرة، ولكنني فوجئت بأنه كبير الحجم والخدمة فيه جيدة حتى أن الموظفين فيه يتعاملون مع الضيف بأعلى درجات الود والخدمة الفندقية عالية الجودة بالرغم من أنهم لا يحملون شهادات وبعضهم لا يعرف القراءة إلا قليلا.

نزلت إلى بهو الفندق بعد أن وضعت حقائبي في الغرفة لأتجول في المدينة الصغيرة كعادتي في كل مكان أذهب إليه، وسألت موظف الاستقبال عن أقرب الأماكن الجميلة التي يمكن أن أذهب إليها في هذا الوقت، فنظر إلى ساعته وأشار إلى جهة اليمين وقال لي بلغة انكليزية ممتازة 'الآن ساعة الغداء، اذهب إلى المطعم الذي يقع في الناحية الأخرى' ودخلت المطعم وطلبت من الغرسون أن يأتي لي بأشهر الوجبات التي يفضلها أهل شهر كرد فابتسم لي وقدم طبقا جميل المنظر وقال لي هذا الطبق الذي يفضله كل أهل المدينة هنا واسمه 'تاه جين' وكان عبارة عن رز يابس 'حكوك' مع بيض ودجاج.. وأعقبه بشاي مخدر كما قال، وكان ذلك كافيا ليدفعني للنوم إلى صباح اليوم التالي.

كوهرانج
استيقظت في الصباح على رنين الهاتف، كان موظف الاستقبال يدعوني لأشارك الآخرين في الرحلة الجميلة إلى 'كوهرانج' لم أسأله عن الموضوع، بل أسرعت في ارتداء ثيابي والنزول إلى لوب الفندق، كان يجتمع عدد من السياح الأجانب - جميعهم من أوروبا - وركبنا الباص الذي كان شكله يوحي بأنه من القرون الوسطى وكنا نشاهد الأرض من أحد جوانبه، ولكن أداءه كان يوحي بأنه من مواليد 2006 ، وفي الباص سألت أحد القريبين منا 'أين سنذهب' فقال لي كوهرانج ثم أحس بأنني لا أعرف المكان ففسرها لي وقال إنها منطقة الشلالات في أعلى الجبل وتسمى كوهرانج وهي من أجمل المناطق السياحية التي يزورها السياح من كل أنحاء العالم شتاء وصيفا.
بعد ساعة من السير في الجبال القريبة من شهر كرد - تبعد 70 كيلو مترا - أعلن مرافقنا أننا الآن في منطقة كوهرانج، وأشار إلى الناحية اليمنى وقال إن هذه المنطقة تحتوي على ثلاثة شلالات آبشار ولوردكان وبيرغار، وصلنا المكان ولكننا لم نشاهد قطرة واحدة من الماء فسألت المرافق وكان اسمه عارف أين الشلال فقال إنه متجمد ولكننا الآن سنزور التحفة الفنية التي يخلفها تجمع الشلالات وهي المنطقة التي تسمى بيرارغار، وكانت بالفعل كما قال.. رائعة من روائع الجمال الطبيعي التي خلقها الله تعالى، منطقة كبيرة تحتوي على العديد من المغارات والأغوار التي تخلفها الشلالات طوال الربيع والصيف أثناء هبوطها، ولكنها تتجمد في فصل الصيف فيأتي السياح إليها ليشاهدوا لوحة نحت من أجمل اللوحات الفنية.
يقضي السياح في هذه المنطقة أكثر من أربع ساعات أو خمس، يتجولون من مغارة على أخرى ويلتقطون فيها أجمل الذكريات، وفي منتصف الطريق يجلسون ليتناولوا الطعام الذي جاؤوا به معهم، ثم يتابعون السير إلى أن ينتهوا من المنطقة كلها، ولكنهم لا يعودون إلى الفندق بل يتابعون المشوار إلى منطقة لوردكان، وفي هذه المنطقة أشار مرافقنا عارف إلى بعض الصخور المتجمعة وقال إنها بقايا مجالس راقية أقامها بعض السياح في الماضي، كانوا يجلسون فيها ويشاهدون الشلالات.. وكانوا كاللوردات في جلوسهم فسمي المكان ب 'لوردكان' نسبة إليهم، وأشار تاجين فجأة الى بعض الآثار التي كانت تلوح لنا ونحن في لوردكان، وقال إنها أماكن خاصة أقامها الزرادشتيون لعبادة النار، ما تزال موجودة منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا.. شخصيا كنت أعتقد أنها مجموعة من الحجارة ! وأثناء عودتنا توقف الباص عند طرف أحد الجبال وأشار إليه تاجين وقال إن من هذا المكان في هذا الجبل منبع ماء ديما الشهير.

تزلج
في اليوم التالي قال لي موظف الاستقبال إن هناك رحلة أخرى إلى الناحية الأخرى وهي منطقة تبعد 35 كيلو مترا للتزلج على الجليد، ولكن للأسف لن تستطيع أن تمارس هذه الرياضة الجميلة لأن الجو غير مناسب لذلك فهناك عاصفة ربما تعصف في أي لحظة، وغادر الباص بنا بعدد قليل جدا من السياح، وبعد ساعة وصلنا إلى أعلى نقطة ممكن أن نصل إليها في مثل هذا الجو، وتوقف الباص عند فندق كبير على القمة تقف عنده كل الباصات والسيارات في مثل هذا الجو، وفي اللوب سألت الغرسون عن الشراب الذي يفضله الناس هنا في مثل هذا الوقت فأحضر لي شايا أخضر وقال إن الجميع هنا يطلبونه باستمرار، تعتبر منطقة التزلج في شهر كرد من أكثر المناطق التي يزورها السياح في إيران، ويكثر السياح هنا من بريطانيا وألمانيا وتقدم شركات السياحة العالمية منطقة شهر كرد للتزلج ضمن أفضل المناطق في المنطقة، ويبدأ موسمها في أواخر شهر يناير على منتصف أبريل، بقينا في الفندق ساعة كاملة ثم عدنا إلى فندقنا في شهر كرد.
ويبدو أن منظرنا العام عندما عدنا من رحلة التزلج والإرهاق الذي دفعنا إلى الاستسلام للنوم رقق لنا قلب موظف الاستقبال فطلب منا أن نقضي اليوم التالي في جنوب شهر كرد، وقدم لنا بروشورا تعريفيا يحتوي على فوائد عسل النحل الإيراني، وأشار لنا بأن ننسى الجبل والعاصفة الثلجية هناك وأن نزور مزارع العسل في شهر كرد ووصفها بأنها من أجمل مناطق العالم التي رآها، في اليوم التالي كان الباص ينتظرنا ومعه عارف مرافقنا، وسألته في البداية عن العسل لأنني أعلم أنه لا يقطف في هذا الوقت حسب علمي المتواضع، فأجابني مبتسما بأن العسل الإيراني ليس له وقت محدد.

نحل مدلل
كانت المزارع على مد البصر، سرنا أكثر من ساعة ونصف الساعة في الباص بجوارها دون أن تنقطع، كأنها بساط وفرش خضراء فرشت على الأرض، لم يكن العسل هو الجميل الوحيد فيها، بل كانت حياة الريف التي رأيناها ما تزال محافظة على طبيعتها تزيد من روعة هذا المكان الذي لا أعتقد أننا سننساه أبدا، كان الأوروبيون يلتقطون صورا لكل شيء يرونه، بل إنهم طلبوا من السائق أن يتوقف للحظة عند أحد المزارع ليصوروا البساط الأخضر الممتد على الأرض، وقبيل أن نصل إلى منطقة العسل طلب منا مرافقنا أن نأخذ حذرنا ولا نحاول التحرش بأي نحلة لأنها ستنادي بقية النحل وتصبح كارثة لنا، كانت هذه الكلمات القليلة كافية لأن نبقى بعيدا عن النحل.
الغريب أن أصحاب الخلايا النحلية طلبوا منا بكل رفق أن لا نصور، لأننا سنهيج النحل ونغضبه فيمتنع عن العسل اللذيذ ! استغربنا كثيرا من هذا الرأي ولكننا تقبلناه لأنهم أدرى بنحلهم وطبيعته، وقضينا برفقتهم نهارنا بالكامل، كان أهل المزارع قمة في الكرم والأخلاق وخفة الدم، غنوا لنا مواويلهم الجميلة، وغنى بعض السياح أغنية من تراثهم، وتجولنا في المزارع القريبة.. ولكننا لم نر أغناما ولا ماشية ولا أبقارا، وعندما سألنا عن ذلك قالوا إنها مزارع خاصة بالنحل وهو حساس جدا ويحتاج إلى رعاية خاصة.. إنه حقا نحل مدلل.

رفاهية
تعتبر شهر كرد من المدن الصغيرة جدا في إيران، ولكنها أعلى منطقة وأكثرها ارتفاعا.. ولذلك تحظى بحضور مميز طوال فصول العام، ففي الشتاء يعتبرونها من أكثر الأماكن في المنطقة جاذبية للتزلج، وفي الربيع يكثر الإقبال إليها من أجل العسل الطبيعي الذي ما يزال يحافظ على مستواه، كما أن أعمار مزارعه تتجاوز ألفي عام حسب ما قاله أحد المزارعين، وتعيش في المزارع أجيال متعاقبة منذ سنين طويلة جدا، ويعتبرون هذه المهنة موروثا تراثيا تجب المحافظة عليه، ومن أشهر العوائل في شهر كرد جارلنج وهاف لنج وهي من الأسر والعوائل العريقة جدا في المدينة.
في اليوم الأخير من وجودنا في شهر كرد فضلت أن أقضيه في ربوع شهر كرد، فذهبت الى سوقها الذي كان يحتوي على بضائع إيرانية، ولم أر فيه بضائع من الخارج، والحركة في السوق لا تهدأ أبدا، والسيارات تسير بطريقة غريبة دون قانون يقيدها ولكنني لم ألاحظ أي حادث مروري بالرغم من تدافع السيارات في الطريق وكأنها في صراع، وأكثر ما يزدحم عليه الناس في السوق الفواكه، وبائعوها يتمتعون بروح دعابة لم أر مثلها، فمع كل فاكهة يحملها يطلق نوعا من الغناء ليشجع المشتري على الاستزادة من الشراء، والحياة في شهر كرد رخيصة جدا فبمائة دينار يمكن للسائح أن يقضي عشرة أيام برفاهية كاملة.

فيلم تسجيلي
قام مخرج بريطاني عام 1965 بتصوير فيلم تسجيلي عن مدينة شهر كرد وعرضه في العديد من المهرجانات الفنية العالمية، وحقق جوائز عدة، صور فيه مزارع النحل والجبل والتزلج على الجليد، ولايزال الفيلم يباع في شهر كرد ولكن بنسخ غير اصلية، وكان تصويره بكاميرا 16ملم السينمائية، ويحاول أحد المخرجين الشباب هذه الايام تصوير فيلم سينمائي روائي في شهر كرد.

شاه مسعودي
لاحظت أثناء تجولي في سوق المدينة انتشار صور لمطرب ايراني يبدو في مظهره الخارجي أنه قديم، فسألت بعضهم هناك عن سبب انتشار هذه الصور والأغاني وهل هو ألبوم جديد نزل الى الأسواق، فقال لي أحدهم إنه المطرب الكبير شاه مسعودي وهو أشهر مطرب في شهر كرد، ونستمع الى أغانيه الآن لأنه توفي الشهر الماضي.. وهو من أشهر المطربين الإيرانيين.

الفالوجة
يعرف كثيرون هذا النوع الجميل واللذيذ من الطعام الذي تشتهر به ايران، ولكنني لم أتذوق نوعا مثل الذي أكلته في شهر كرد، مع أن موسم الفالوجة او الفالوذة كما يسمونها هناك في الصيف.. ولكن هذه الاكلات تنتشر ايضا في موسم الشتاء في منطقة شهر كرد ويبحث عنها السياح الأوروبيون خصيصا ويبحثون عن أماكنها.. بل ويدفعون ثمنها مبلغا كبيرا، ولا أعرف إذا كانوا يعرفون ثمنها الحقيقي أم لا.