الخميس:02. 02. 2006
الحسن بن طلال
في عالمنا هذا الذي يشوبه الانقسام وتمزقه الصراعات، يغيب عنه إنسان طالما عمل وسعى في سبيل توحيده - هذا العالم الذي يخضع للعولمة التي يبدو وكأنها عاقدة العزم على تأكيد الفروق بين الأفراد والأعراق والأماكن والعقائد أكثر من أي وقت مضى. وفي خضم كل ذلك فإن الوصف الأمثل الذي يمكن أن يطلق على صديقي المغفور له - بإذنه تعالى - زكي بدوي، الذي انتقل إلى جوار ربّه يوم الثلثاء في 24/1/2006، هو أنه كان من خيرة الرجال.
كُُتب الكثير عن المناقب والمآثر العظيمة لزكي الذي جمع بين الروحية والتفهم، وهو أمر نادر وثمين في بريطانيا، وعلى امتداد العالم. وقد نقل إيمانه بالتعددية إلى قلب المسرح المدني في البلاد. كما تأثر بأعماله أجيال من البريطانيين؛ مسلمين وغير مسلمين على حد سواء. ولكن الهدية العظيمة التي قدّمها زكي لنا جميعًا باقية بعد رحيله. فقد ترك وراءه إرثًا من الأمل لنا جميعًا وللأجيال القادمة.
تقابلت أنا وزكي، قبل ما يناهز الثلاثين سنة، بُعيْدَ تعيينه مديرًا للمركز الثقافي الإسلامي في لندن. كم يبدو العالم الآن مختلفًا عما كان عليه في ذلك الحين. لقد تبلورت رسالة زكي آنذاك؛ مؤهلة للصمود أمام العواصف العاتية التي لم يستطع التنبؤ بهبوبها سوى القلة القليلة.
هنا كان رجل تتعانق في شخصه مجموعة من الهويات بصورة إنسانية متينة. لقد تشكلت شخصيته ذات البعد الإنساني العميق، وهو المصري المولد وخريج الأزهر الشريف، من خلال دراسته للغة وآداب آبائه وأجداده. ومع ذلك، فقد عاش زكي حياة جديدة غنية، عندما التحق بالكلية الجامعية في لندن، حيث حاز على درجة الدكتوراة، في الفكر الإسلامي الحديث. وعلى مَرِّ السنين، أصبح زكي جزءًا من الحياة البريطانية؛ محافظًا في الوقت نفسه على شخصيته الحازمة. كما حاول تأكيد مفهوم الاندماج في المجتمع من خلال أقواله وأعماله. وعاش حياة مجيدة مزيّنة بأبهى حلل الثقافة والترابط المجتمعي، والإيمان والصداقة. ولم تكن الخلافات عنده سببًا للشقاق، كما لم تفسد للود قضية، سواء بالنسبة له أو لرسالته. فكانت مناقبه الكثيرة دعوة إلى الحفاوة لا إلى تقريع الذات.
لقد كانت رسالة زكي بدوي - وما زالت - مهمة وذات صلة بما يجري حولنا اليوم. فإذا أفسحنا المجال أمام أولئك المتزمتين الذين يبدون في بعض الأوقات أعلى صوتًا من أصحاب الفكر الجاد، فإننا سنخسر كل شيء. فعلى امتداد العالم، نلمس الخطوط التي لن يؤدي رسمها إلا إلى القسمة والتفرق. وفي بعض الأحيان، يبدو الإصغاء إلى رسالة الكراهية والانقسام أكثر سهولة، ولكن زكي علّمنا كيف أن الحوار هو دومًا السبيل إلى تحقيق التقارب والانسجام.
وقد عملت مع زكي في إطار مؤسسة الحوار بين الأديان، وهي ميدان تجلّت فيه كفاءاته. وبالاشتراك مع رجال من ذوي الفكر الثاقب من أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، والتي ضمت مطران لندن والحاخام جوناثان ماغونيت، سعينا إلى العمل سويًا تحت مظلة إله واحد، ودون التنازل عن عقائدنا. وقد كان زكي صاحب الفضل في إعادة شمل أول اجتماع يضم حاخامًا عقد في سنة 1995، بعد أن لقي معارضة من قبل جمهور من المسلمين واليهود. وبدا أن التخوف من ردود فعل الحاضرين أقوى من أية تناقضات متأصلة بينهم. إن دعوته المستمرة إلى الحوار قد منحته القوة المعنوية لمخاطبة أنداده. وكان لشخصيته الجذابة، وروح الدعابة التي اتسم بها، وقوته العقلية أبلغ الأثر في إقناعهم بالاستجابة إلى دعوته.
وقد عرفت ابنتي الصغرى بديعة، زكي، معرفة صديق وزميل من خلال دورها التنفيذي في مؤسسة الحوار بين الأديان. وهو الذي عقد قران ابنتي بديعة وزوجها خالد في عمان الصيف الفائت. وهي مناسبة إيمانية حميمة نتذكرها جميعًا. فقد حرص زكي على مشاركة الحضور في حفل القران، موضحاً مغزى هذه المناسبة، ما شكّل معلمًا بارزًا في حياة العروسين الشابين. وفي مناسبة كهذه تجمع في رباط الزوجية بين اثنين تربيا في بيئتين ثقافيتين ودينيتين مختلفتين، كان زكي، الذي قام بإجراء المراسم كي يجمع بينهما في هذا الرباط، أفضل من يقوم بهذه المهمة.
لقد كان زكي دوماً معتزاً بثقافته وتقاليده. وهو موقف حافظ عليه على الرغم من تصرفات البعض السلبية تجاهه. فقد تحدث بفخر واعتزاز ودراية عن عصر الإسلام الذهبي. كما ذكّر مسلمي بريطانيا بأن مثل هذه المشاعر لا تتعارض مع اعتزازهم بكونهم بريطانيين. وآمل، عندما أتحدث إلى أحفادي عن هذا الرجل الذي أحببت واحترمت، أن لا يكون حديثي يتعلق بعصر ذهبي مضى وانقضى. فمن واجبنا أن نحمل الرسالة التي خلّفها لنا زكي بدوي.
ينبغي أن نبدأ بتعليم أنفسنا وأطفالنا الشعور بقوة هوياتنا المتعددة، قبل أن نتحاور مع الآخرين. هو زكي العالم، ورجل الدين، والزوج، والأب والصديق وأكثر من ذلك. وليست تلك إلا بداية قصته. سوف نفتقد زكي بشدة ونحن نعيش في عالم تعصف به الاضطرابات. ولكن ستظل رسالته حية من بعده.
منسّق منظّمة المؤتمر العالميّ للأديان من أجل السّلام؛ رئيس منتدى الفكر العربيّ وراعيه؛ رئيس نادي روما













التعليقات