محمد الرميحي

يصل من يتابع الشأن اللبناني إلى محصلة مفادها أن الثقافة العربية المعاصرة، بعامة - وإن شئتَ laquo;الثقافة اللبنانيةraquo; - لا تقبل الديومقراطية، بمعناها الحديث؛ والتفاصيل كثيرة، بعيداً عن صغائر الأمور، وأهمها أن أحد أسس الديموقراطية القبول بنتائج الانتخابات التي خيضت أو تُخاض في المجتمع، وترك الغالبية النيابية تحدد مسار البلاد، فتأخذ الأقلية موقع المعارضة.

في لبنان جرت انتخابات هُلِّل لها كثيراً، ولو أن البعض اعترض على تقسيم الدوائر الانتخابية. إلا أن أي فريق سياسي ذي شأن كبير لم يُقاطع، فأصبح من المعقول أن تُحترَم نتيجة الانتخابات، وأن يُدارَ البلد بين laquo;حكومةraquo; و laquo;معارضةraquo;.

في لبنان شيء مختلف عمّا هو قائم في سائر أنحاء الدنيا؛ ففي لبنان، يمكن أن تشارك قوى سياسية في الحكومة، وأن تقوم بالمعارضة في الشارع في آن. والمثال الساطع على ذلك هو التحالف الشيعي السياسي، laquo;أملraquo; و laquo;حزب اللهraquo;، فعلى رغم وجودهما في الحكومة، حدث laquo;تغيّبٌraquo; من دون استقالة لوزرائهم طوال خمسين يوماً، سرعان ما تجاوز الشكل إلى المضمون، ليصل بعد ذلك إلى الدعوة للعودة لتبديل الغالبية في البرلمان إلى الغالبية في الشارع! وهذا إجراءٌ ليس متبَعاً في كل الديموقراطيات المعروفة.

موضوع laquo;اعتكافraquo; وزراء الشيعة غير مسبوق في أية ديموقراطية على وجه الأرض. وهو اعتكاف عجيب: عدم حضور مجلس الوزراء من ناحية، وتسيير أعمال الوزارة المختصّة في الوقت نفسه! وبدائل الاعتكاف معروفة في الديموقراطيات الحديثة، وهي متعددة الخطوات، منها: الاستقالة أو الدعوة إلى انتخابات جديدة، أو قبل ذلك، تغيير قانون الانتخابات ديموقراطياً... إلا أن كل هذه الأدوات ضُرِب بها عرض الحائط، واستعيض عنها برغبة قوية في ديموقراطية بديلة، هي laquo;ديموقراطية الأنا، وليذهب الآخرون إلى الجحيمraquo;!

تبدّل التحالفات السريع في العمل السياسي اللبناني، إنما يدلّ إلى عدم هضم الديموقراطية في عالمنا العربي (ولبنان مثال حيٌّ على ذلك). ولو قُدِّر لراصد أن يرصـــد تبدّل التحالفات، فقط منذ اغتيال المرحوم رفيق الحريري، قبل عـــام تقريباً، حتى يومنا هذا، لهاله ما يرى. حتى أن الاصـــطفافات التي تُسمّى بأسماء الشهور التي وقعت فيها الأحداث، مثل laquo;14 شباطraquo; و laquo;8 آذارraquo; و laquo;14 آذارraquo;، ثم من جديد laquo;6 شباطraquo; وغيــرها، تحتاج إلى منجّم من غير اللبنانيين المتمرّسين، ليفكّ شيفرتها. وهي، توضيحاً، تمثّل علــــى التوالي: مقـــتل الحريري، تظاهـــرة laquo;حــزب اللهraquo; لوداع السوريين، ثم تظاهـــرة القوى اللبنانية المختـــلفة، بما فيها التيار العـــوني laquo;البرتقاليraquo; التي سميت إنها laquo;انتفاضة الحريةraquo;، ثم اتفـــاق laquo;البرتقاليraquo; (العوني) مع laquo;الأصفرraquo; (laquo;حزب اللهraquo;)، عدا laquo;تجمّع بريستولraquo; وlaquo;قـــرنة شهوانraquo;، مما يشكّل عبئاً هائلاً على دارس الحركة السياسية اللبنانية في المستقبل، ويشكّل مصيدةً ليس لها باب للخروج منها إلى لبنان الوطن.

ليس أفضل لقراءة جذور الحركة اللبنانية السياسية، من كتاب الصديق رغيد الصلح الذي صدر أخيراً، عن laquo;مركز البابطين للترجمةraquo; بالتعاون مع laquo;دار الساقيraquo;؛ laquo;العروبة والقومية اللبنانيةraquo; فهو كتاب يؤسس لهذا الاختلاف العشائري الذي يصرّ بعض اللبنانيين على وصفه بالديموقراطي، على أنه إن تمّت تسميته تحت هذه الصفة، فلا بدّ أن يُضاف إليها صفة العشائرية.

ليس التعقيد الوحيد ما ذكرتُ آنفاً، فالتناقض يصل إلى حدّ لا يُفهم عقلاً؛ فقوى مثل laquo;حزب اللهraquo; وraquo;أملraquo; ترفع شعارين يكادان أن يكونا متناقضين، وهما: laquo;مع التحقيق الدولي إلى نهايته لمعرفة من قتل رفيق الحريريraquo;، وفي الوقت نفسه laquo;الدفاع عن سورية لما تواجه من حملات دوليةraquo;. ويسأل المراقب: كيف يكون ذلك؟ فأن تكون هناك أطراف سورية متهمة دولياً بأن لها ضلعاً في القتل، فهذا ليس سراً من أسرار الآلهة، والاتهامات الموجهة إليها هي صلب مصدر الضغوط، ومسيرة معرفة الحقيقة تحتاج إلى اشتداد الضغوط الدولية. هذا التناقض ليس محلّ تفكير علني وصريح من القوى التي تقول به.

ميشال عون (البرتقالي) هو أحد أهم أطراف الضغط على سورية، وليس ببعيد عن الذاكرة موقفه في الكونغرس الأميركي، بل إنه يفاخر بكونه أحد عوامل تمرير laquo;قانون محاسبة سوريةraquo;. وبتحالفه أخيراً مع laquo;الأصفرraquo; (laquo;حزب اللهraquo;) الذي له موقف واضح من الدفاع عن سورية، لا بل إنه أحد أهم وأكبر حلفائها في الساحة اللبنانية. هنا تختلط الصورة اختلاطاً يمنع المُشاهد من تبيّن حقيقتها، وتُفقِده القدرة على التمييز بين التكتيكات والثوابت، إلى حدّ أنها تجعله يوقن بأن ليست هناك ثوابت بمقدار ما هناك مصالح آنية، يعرف الجميع أنها يمكن أن تتغيّر.

على رغم أن اللبنانيين محظوظون بالمصادفات التاريخية، فقد أمدّتهم هذه بمصادفة وقوع الاحتفال بعاشوراء يومَ عيد مار مارون بالذات، وجعلت عطلة الدولة مبرّرَةً لأكبر طائفتين، واحتفلت الطائفة الشيعية والطائفة المارونية بالمناسبة، فحضر في بعضها ممثلون عن كل الطوائف، مع ما في ذلك من دلالة واضحة على laquo;العيش المشترَكraquo;. إلا أن المصادفات لا تذهب إلى أبعد من ذلك؛ فعندما شاهدتُ - وأنا ألبّي دعوةَ صديق، في الرابع من شباط (فبراير)، وهو اليوم السابع والخمسون بعد الثلاثمئة على مقتل رفيق الحريري (تاريخ لبنان الجديد) - مجموعةً غاضبة على أطراف الأشرفية، وجدْتُ أن هذا الجمع الغاضب مسلّحٌ بأشكال مختلفة من الأعلام لا تتبيّن مرجعيتها، ولم يُسمَح لي بالمرور بطبيعة الحال، فقررت أن أعود أدراجي، طلباً للسلامة. ثم أصبح يوم الخامس من شباط يوماً آخر، يُضاف إلى أجندة تواريخ لبنان الحديث، لم تُحرَق فيه القنصلية الدنماركية، بل حرقت وكسرت فيه ممتلكات لمواطنين ودور عبادة.

بيت القصيد، أن هناك مهلاً زمنية واستحقاقات سياسية في لبنان ضخمة وأساسية وحساسة، كان من المفترَض أن تواجهها ديموقراطية تقوم بحلّ الكثير منها؛ إلا أن اللاعبين الأساسيين يريدون اللعب خارج ساحة الملعب نفسها، فيتركون اللعبة للاعبين ثانويين يشجّعونهم على الرعونة والمزايدة. وحتى الآن، لا يزال الجميع يعتقدون أن اللعبة ممسوكة، وهم جميعاً على خطأ بيّن في ذلك؛ فهذا الشحن ضدّ الديموقراطية المنضبطة ووجود الدولة، سيقلب الأمور في نهاية اللعبة إلى خسارة فادحة، ولن يربح أي من هذه القوى. ولربّما تصبح الأشرفية كربلاء، وكلّ يوم في لبنان هو عاشوراء.


كاتب كويتي.