الجمعة: 2006.04.14
فنجان قهوة
أبو خلدون
أغرب ما في حياتنا التي تموج بالغرائب، أن الخيال اختلط بالواقع وضاعت الفواصل بين الإثنين، سواء في العلم أو الأدب أو الفن أو الحياة، أو حتى في السياسة، ففي شطحة من شطحات الخيال تصور شارون أنه إذا وصل إلى الحكم فإنه سيقضي على المقاومة في الضفة الغربية وغزة خلال أسبوعين، فجعل هذه القضية بنداً رئيسياً في برنامجه الانتخابي، وفاز شارون وبقي في الحكم سنوات كانت المقاومة خلالها تزداد قوة يوما بعد يوم، إلى درجة أنها جلبت له الجلطة، فاعتزل كئيبا مقعدا في منزله. وفي شطحة مماثلة تصور بوش أنه إذا أرسل قواته إلى العراق فإن العراقيين سيستقبلونهم بالورود، فكانت النتيجة أن تحولت الورود الموهومة إلى مآزق وآفاق مسدودة وكوارث متعددة.
وفي الولايات المتحدة عالم كبير اسمه راي كيرزفيل ارتبط اسمه بالعديد من المخترعات الحديثة، من بينها اختراع يستطيع الكمبيوتر عن طريقه التعرف إلى صوت مستخدمه، وتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليه، من دون استخدام لوحة المفاتيح، وقد استفادت ميكروسوفت من هذا الاختراع وأدخلته بشكل محدود في برنامج ldquo;وورد أكس بيrdquo;. ويقول كيرزفيل إن الحلم الذي يراوده حاليا هو أن يمر، قبل وفاته، على رجل يجلس على ناصية الشارع وقد وضع أمامه غسالة كهربائية أو مكيف هواء، فيسأله: كم سعره؟ فتجيب الغسالة أو المكيف بغضب: ldquo;أيها الغبي، أنا البائع، وليس هوrdquo;.
وراي كيرزفيل في الرابعة والثلاثين من العمر في الوقت الحاضر، ويتصور، في كتاب نشره على موقعه على الانترنت، أنه قبل بلوغه سن الكهولة سيكون في استطاعة الناس الوقوف في طوابير أمام إحدى شركاته لتغيير أعضائهم، واستبدال قلوبهم التي أصبحت واهنة بقلوب من التيتانيوم مثلا، وأكبادهم بأكباد من الفوكسبات الذي تصنع منه طائرات الفانتوم. وإذا كان مزاجهم سوداويا ويعانون من كآبة مستفحلة، فإنهم يستطيعون ldquo;تحميلrdquo; عقلهم الباطن إلى حاوية النفايات.
وأحلام العلماء هي حقائق المستقبل، ولكن أحلام كيرزفيل تتطلب تبديل العالم الذي نعيش فيه إلى عالم جديد، فهو سيحول البشر إلى آلات، والآلات إلى ما يشبه البشر، فتكون النتيجة وجود نوعين: الأول آلات تفكر كما يفكر البشر تماما، والثاني بشر ولكن بأعضاء مصنوعة من المعادن، حتى عظام الجسم وعضلاته يتصور كيرزفيل استبدالها بمعادن قوية تغطى بطبقة رقيقة من الجلد الذي يشبه الجلد البشري، وبذلك لا نعود نسمع من يقول: ldquo;أتمنى بالفعل أن أفعل ذلك ولكن صحتي لا تساعدنيrdquo;.
ويسخر كيرزفيل من الذين يسخرون من خياله، وخصوصا في ما يتعلق ldquo;بتحديثrdquo; اللاشعور والعقل، ويقول: إننا نستطيع أن نربط ملايين الترانزيستورات المتناهية في الصغر على شريحة كمبيوتر في الوقت الحاضر، لتقوم بمهمة ما، ونحن ندرك أن صنع عقل يعمل كما يعمل العقل البشري بحاجة إلى ربط مليارات الترانزيستورات مع بعضها البعض على شريحة واحدة، وهذا يعني أن المشكلة تنحصر في توصلنا إلى وسيلة لزيادة عدد الترانزيستورات التي يمكن جمعها على شريحة، وأنا واثق أننا سنتمكن من التوصل إلى ذلك في المستقبلrdquo;.
يبقى هنالك شيء: نحن نعرف أن سلوك الإنسان على الأرض محكوم بالتحدي والاستجابة، والاستجابة للتحديات هي التي دفعت ساكن الكهوف، مثلا، إلى التفكير بوسيلة للخروج منها والعيش في مجتمعات، مع غيره من البشر، وهي التي دفعته إلى ldquo;اكتشاف الزراعة وفلاحة الأرضrdquo;. فهل اكتشف كيرزفيل وسيلة لتزويد الآلات التي يرغب في صنعها بالقدرة على الاستجابة للتحديات؟ والإنسان، على الأرض، تمكن من تكوين ذاكرة جماعية تساعده على الاستفادة من تجارب أخوته في البشرية منذ ما قبل التاريخ حتى الآن، فهل اكتشف كيرزفيل وسيلة لتزويد آلاته بذاكرة جماعية؟
إن هوليوود هي التي جعلت الخيال يتجاوز الخيال، وقد سقط ضحية ذلك كل مظهر من مظاهر حياتنا، من العلم إلى الأدب إلى الفن إلى.. السياسة.
التعليقات