محمد عابد الجابري

تعرفنا في المقالات السابقة على أهم الأفكار التي راجت في الفكر الإسلامي حول النبوة وحقيقتها. وقد أخَّرْنا الحديث عن ابن رشد ليس فقط لأنه عاش في مرحلة زمنية متأخرة، بل أيضاً لأنه يرفض وجهة نظر المتكلمين، كما سنرى، وأكثر من ذلك يضرب صفحاً، وبقوة، عن فكرة الفيض وما شيد عليها، سواء على مستوى فهم العلاقة بين الدين والفلسفة أو على مستوى العلاقة بين النبوة والإمامة والولاية. وإذن فهو يقع خارج المسارات التي تحدثنا عنها.
هو يرى أن فكرة الفيض، التي اعتمدها كل من الفارابي وابن سينا والتيارات الباطنية، في فهم حقيقة النبوة فكرة دخيلة على كل من الفلسفة والدين. يقول: إنها كلها quot;تخرُّصٌ على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهquot;، وإنها quot;تعمق هؤلاء في الهوسquot;، فهي quot;كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم (الفلاسفة). وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخَطَبي فضلا عن الجدليquot; (تهافت التهافت).
لم يناقش ابن رشد، إذن، ما قاله الفارابي عن النبي والفيلسوف ولا ما ذهبت إليه التيارات الباطنية بمختلف منازعها في موضوع النبوة والإمامة والولاية، فالأمر بالنسبة إليه يصدق عليه القول المشهور quot;ما بني على فاسد فهو فاسدquot;. والمذهب الوحيد الذي ناقشه فيلسوف قرطبة في موضوع النبوة هو مذهب الأشاعرة. ذلك لأن هؤلاء قد بنوا مذهبهم في إثبات النبوة على المعجزة. والمعجزة تعني عندهم quot;خرق العادةquot; أي تعطيل مفعول السببية.
يناقش ابن رشد هذا الاتجاه، في كتابه quot;الكشف عن مناهج الأدلةquot;، ويبيِّن ضعف استدلالاته. هو يرى أن النبوة هي وحي من الله إلى الناس. فيجب أن يعترف الخصم بوجود الله أولاً حتى يمكن الكلام معه في النبوة. أما إذا كان لا يؤمن بالله فيجب أن نبدأ معه من إثبات وجوده. وليس من سبيل إلى إثبات وجوده بطريق برهاني إلا سبيل سلسلة الأسباب التي تنتظم الكون بأسره، فمن الصعود من المسببات إلى أسبابها ننتهي إلى السبب الأول الذي هو الله الخالق.
إن إنكار مبدأ السببية يلغي، في نظر ابن رشد، إمكانية معرفة حقيقة أي شيء, فنحن لا نعرف حقيقة الأشياء إلا بمعرفة أسبابها. وبعبارته المشهورة quot;فمن رفع الأسباب فقد رفع العقلquot;. لأن quot;العقل ليس شيئاً آخر غير إدراك الأسبابquot;. ويضيف: quot;أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي. والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلكquot;.
أما قول المتكلمين الإسلاميين في ردهم على البراهمة الذين ينكرون النبوات: quot;إن وجود الرسل يدل عليه العقلُ لكون ذلك جائزاً في العقل، فإن الجواز الذي يشيرون إليه هو جهل. وليس هو الجواز الذي في طبيعة الموجودات. وذلك أن quot;الجوازquot; الذي هو من طبيعة الموجود هو أن يُحَسَّ أن الشيء يوجد مرة ويفقد أخرى، كالحال في نزول المطر، فيقضي العقل حينئذ قضاء كلياً على هذه الطبيعة بالجوازquot;. أما الجواز العقلي المحض، أو الإمكان الذهني المجرد، فلا يمكن بناء البرهان عليه وحده.
وهكذا، quot;فلو كان الخصم (البراهمة) قد اعترف بوجود رسول واحد في وقت من الأوقات، لظهر أن الرسالة من الأمور الجائزة الوجود. أما والخصم يدعي أن ذلك لم يُحَسَّ بعد، فالجواز الذي ندعيه إنما هو جهل بأحد المتقابلين، أعني الإمكان والامتناعquot;. أما أن نقول إن إحساس الناس بوجود الرسل من بعضهم إلى بعض يدل على إمكان وجودهم من الخالق، فهذا يقتضي تساوي الطبيعتين، البشرية والإلهية، وهذا شيء عسير قبوله، لأن ما يصدق على زيد أو عمرو لا يصدق بالضرورة على الله.
ولذلك يرى ابن رشد أن الطريق الصحيح لهذه المسألة هو كما يلي: أما إثبات بعثة الرسل، فهذا أمر لا نحتاج فيـه إلى استدلالات نظرية. فوجود الأنبياء ظاهرة تاريخية: لقد تواتر الخبر عن وجود الأنبياء في الماضي، كما تواتر الخبر عن وجود الفلاسفة والعلماءhellip; وإذا كنا لانشك في وجود الحكماء مثل سقراط وأفلاطون، مثلاً، فلماذا نشك في وجود الأنبياء؟ وإذا قيل: نحن نعرف وجود الفلاسفة من خلال ما تركوه من مؤلفات، فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم عن غيرهم من مدعي النبوة؟ يجيب ابن رشد: نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء! وإذن فكل من قال عن نفسه إنه نبي رسول من الله، وجاء بشريعة من جنس شرائع الأنبياء تتفوق في العادة على ما يمكن أن يأتيه مطلق الناس في عصره، مما يشبهها، فهو نبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أن الناس ليسوا جميعا من الذكاء والعقل والفضل بحيث يمكن أن نتصورهم يلتزمـون الفضيلة من عند أنفسهم، فإن الرسل هم من هذه الناحية ضرورة اجتماعية.
أما إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فابن رشد يعتمد فيها على القرآن. فقد طالبته قريش مراراً بالإتيان بآيات معجزات فكان رد القرآن: quot;قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاًquot; (الإسراء 93). ويشير القرآن إلى أن معجزة النبي محمد هي القرآن نفسه: quot;أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَquot; (العنكبوت 51). وقد تحدى قريشاً بأن يأتوا بسورة مثله: quot;أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِquot; (يونس 38). ويضيف ابن رشد: quot;وإذا كان الأمر هكذا، فخارقه صلى الله عليه وسلم، الذي تحدى به الناس وجعله دليلاً على صدقه فيما ادعى من رسالته، هو الكتاب العزيزquot;.
ويحتج ابن رشد بمقارنة القرآن مع الكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) فيقول: quot;وبالجملة فإن كانت ها هنا كتب، واردة في شرائع، استأهلت أن يقال إنها كلام الله لغرابتها وخروجها عن جنس كلام البشر ومفارقته بما تضمنت من العلم والعمل، فظاهر أن الكتاب العزيز الذي هو القرآن هو أوْلىَ بذلك وأحرى أضعافاً مضاعفة. وأنت فيلوح لك هذا جدا إن كنت وقفت على الكتب، أعني التوراة والإنجيل. فإنه ليس يمكن أن تكون كلها قد تغيرتquot;. ولو قارنا بينهما وبين القرآن لاتضح quot;فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارىquot;. ويتبين فضل شريعة الإسلام على الشرائع الأخرى على مستوى طريقة الإقناع أيضاً، ذلك أن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم quot;ليست هي مثل دلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى عليه السلام، ولا إحياء الموتى على نبوة عيسى، وإبراء الأكمه والأبرص، فان تلك وإن كانت أفعالاً لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وهي مقنعة عند الجمهور، فليست تدل دلالة قطعية إذا انفردت، إذ كانت ليست فعلاً من أفعال الصفة الـتي بها سمي النبي نبياً. وأما القرآن فدلالته على هذه الصفة هي مثل دلالة الإبراء على الطب. ومثال ذلك لو أن شخصين ادعيا الطب، فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أسير على الماء، وقال الآخر الدليل على أنى طبيب أني أبرئ المرضى. فمَشَى ذلك على الماء، وأبرَأ هذا المرضى، لكان تصديقنا بوجود الطب للذي أبرأ المرضى ببرهان، وتصديقنا بوجود الطب للذي مشى على الماء مقنعاً، ومن طريق الأولى والأحرىquot;، وهو أضعف من طريق البرهان التجريبي.
هكذا يعود بنا ابن رشد إلى القرآن للبحث عن أجوبة للمسائل التي تطرح بصدده، مسلحاً بالتحليل المنطقي ليس غير. وذلك وفاقاً مع أطروحته الأساسية في هذا المجال، وهي أن الدين والفلسفة بناءان مستقل كل منها عن الآخر، وبالتالي فمسائل الدين يجب أن تبحث داخل الدين، ومسائل الفلسفة داخل الفلسفة، لأن لكل منهما أصوله ومبادئه الخاصة.