الطيب تيزيني

تأتي المقالة التي نشرها المفكر الياباني- الأميركي فرانسيس فوكوياما مؤخراً في صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; والتي حملت عنوان quot;ما بعد مذهب المحافظين الجددquot;، في سياق اعتقاده بأن كتابه الشهير quot;نهاية التاريخquot; قد أسيء فهمه من قِبل المحافظين عفواً أو قصداً، ولذلك يسعى في مقالته المذكورة، إلى تصويب الموقف.

ولعل فوكوياما أراد توجيه نقد للإدارة الأميركية ذات الطابع الليبرالي الجديد، حين رفعت شعار دمقرطة العراق، بعد أن أخفقت في إيجاد أسلحة دمار شامل فيه. ويتضح ذلك أكثر، حين نستعيد ما عمل الليبراليون الجدد على تأسيسه من فكرةٍ يصح عليها القول إنها quot;السمّ في الدّسمquot;، وهي (الهيمنة الإيجابية). أما هذه الأخيرة فيرادُ بها القول إن الديمقراطية تحتاج، في أحيان كثيرة وخصوصاً في مرحلتنا، مَنْ يفرضها على الشعوب المتخلفة، وذلك بصيغة الهيمنة عليها. وفي هذه الفكرة تلتقي الإدارة الأميركية مع الخطاب الليبرالي الجديد إلى درجة أنها تتبناه بمثابة خطاب لها. وبهذا، يغدو واضحاً أن فوكوياما لا يخطّئ الإدارة المذكورة في مسألة الحرب التي أعلنتها على العراق، وإنما في quot;الخيار الخاطئquot; الذي أعلنته بعد قصة quot;الأسلحة الوهميةquot;، أي خيار الديمقراطية، وما يستتبعه من استحقاقات. وإذ حدث quot;الخطأquot; المذكور، فلا بأس -برأي فوكوياما- أن يجعل منه quot;فضيلةquot;، وذلك بالنظر إلى أن إسقاط صدام وديكتاتوريته أدى خدمة جلّى للعراقيين.

في ذلك الموقف، نضع يدنا على أن صاحب quot;نهاية التاريخquot; يجري وراء الإدارة الأميركية، حتى في المواقف التي يرى أنها أخطأت فيها، واستتباعاً لذلك، يتابع فوكوياما في توليد مواقف جديدة أخرى من الخطأ المركزي المعنِي هنا (أي الاعتقاد بأولوية الديمقراطية على الحداثة). ومن ذلك ما يتمنى أن يحدث في قادم الأيام القريبة أو البعيدة، وهو تحقُّق الديمقراطية في العراق، ولكن بـquot;هيمنة شيعيةquot;. ها هنا، تُفصح عن نفسها الفكرة المسكوت عنها والناظمة لإيديولوجيا quot;نهاية التاريخquot; الفوكويامية، وهي الاستجابة لِما بعد الحداثة العولمية في مطلبها التفكيكي: تفكيك الهويات الكبرى والمثمرة تاريخياً، ومن ثم تفكيك ما هو مفكّك وتذرير ما هو مذرّر. وquot;الهيمنة الطائفيةquot; في بلد يشتمل على أطياف كثيرة من الطوائف والمذاهب والإثنيات، يمكن أن تنجز مهمتين اثنتين. أما أولاهما فتقوم على إسقاط الهوية الوطنية والقومية للعراق وجعلها من الهويات التي quot;استُنفِدت تاريخياًquot; حيث فقدت أغراضها. في حين تتحدد المهمة الثانية في التمكين لحكم طائفي تقف على رأسه quot;طائفة مهيمنةquot; بالاعتبار الديني المذهبي، ومن شأن هذا وشأن غيره من العوامل الفاعلة في الفضاء العراقي والعربي، أن يؤسّس لمشروع حروب أو حرب أهلية بين الطوائف، تمتد إلى بلدان الجوار وتشعل الفتيل، الذي لا ينطفئ إلا بانطفاء شعوبها وانغلاق مستقبلها. وهذا، بذاته، إنجاز هائل على طريق وضْع اليد على البلدان المذكورة ثروة ونفطاً وطبيعة ومستقبلاً.

إن فوكوياما في مقالته الجديدة، أراد أن يصوّب رأي الليبراليين الجدد في كتابه quot;نهاية التاريخquot;. ولكنه -في سياق ذلك- أضاف نقاطاً جديدة أو أوضح نقاطاً قديمة، قادت إلى ما يعتبره quot;الأطروحة الحاسمةquot; في الموقف من التغيير في البلدان غير الديمقراطية، خصوصاً، بحيث تنشأ لديها القدرة شيئاً فشيئاً على طرح خياراتها السياسية المناسبة، التي ستكون quot;الديمقراطيةquot; في مقدمتها.

وفي هذا وذاك، يرى فوكوياما أن الصيغة المناسبة لتحقيق ذلك الخيار السياسي تتمثل في نطاق الشعوب المعنية (ومن ضمنها الشعوب العربية)، إنما هي -هنا- خطٌ ينطلق من الأعلى إلى الأدنى، إشارة إلى أن الحاكم أو النظام السياسي الحاكم هو الذي يمكنه الانطلاق باتجاه تحقيق الديمقراطية (على عكس ما يراه الكاتب من أن تحقيق ذلك في الغرب إنما هو شأن المجتمع برمته تاريخياً وراهناً). ومع القول بصحة الشّق الآخر من المسألة والمتصل بالغرب، إلا أنه لا يصح أن نأخذ الأمر على عواهنه فيما يتصل بالشعوب المذكورة. فها هنا يبرز السؤال البنيوي التالي: هل تُتاح للنظم السياسية العربية أن تقوم بمهمات الدَّمقرطة في بلدانها، في الوقت الذي نعلم فيه أن جُلّ هذه النظم نفسها تقف عثرة في وجه ذلك؟ إن مقالة فوكوياما حول ما بعد المذهب الليبرالي، مثيرة ومحفّزة للتفكير في مسائل كبرى في عصرنا، حتى في الأخطاء المنهجية والنظرية التي يرتكبها فيها!