صبحي حديدي


أخيراً استقرّ وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدّمي الإشتراكي اللبناني وقائد كتلة اللقاء الديمقراطي والزعيم الدرزي في المقام الأوّل، علي عبور نهر الروبيكون (كما تقول الحكمة اللاتينية في توصيف المنعطفات الحاسمة)، فعقد لقاء مع المعارضة السورية، أو بالأحري أحد أطرافها حصراً، وليس معظم أطيافها عموماً. ليس دون مفاجأة في ما يخصّ اختيار جنبلاط اللقاء مع وفد يمثّل جماعة الإخوان المسلمين ، وليس أيّ وفد يمثّل الاطراف العلمانية الديمقراطية (لكي لا نقول: التقدمية، الإشتراكية!) في المعارضة السورية.
وبادئ ذي بدء، لسنا البتة نعترض علي لقاء جنبلاط بالجماعة، بل نشجّع عليه دون أدني تحفّظ، ونحثّ علي تجاوز كلّ العقبات ـ الواقعية منها أو الوهمية ـ التي تحول دون التعاطي مع الجماعة بوصفها أحد أطراف المعارضة السورية، وممثّلة إسلام سياسي يستنير أكثر فأكثر، ومطلوب بالتالي أن نترافق معها ونرافقها في خطوات التغيير الإيجابيّ تلك. وثمة، في هذا الموقف من تطوّر الجماعة، ما هو أبعد أفقاً وأعمق أثراً وأجدي نتيجة من مجرّد عقد تحالف سياسي حول هذه أو تلك من شؤون التغيير الديمقراطي المطلوب في سورية: ثمة ترجيح لكفّة إسلام عصري منفتح مرن ذي توجّه حقوقيّ مدني وديمقراطي بنسبة متقدّمة، أو تكديس المزيد من المثاقيل في كفّة ذلك الإسلام الظلامي المتشدد الأصولي الإقصائي.


غير أنّ هذا الموقف المبدئي لا ينبغي أن يمنع الوقفة النقدية المبدئية إزاء لقاء جنبلاط ـ الإخوان المسلمين، تماماً كما أفسح تشجيع التعاطي مع الجماعة هامشاً نقدياً ـ أوسع في الواقع، لأنّ المحتوي كان أشدّ خطورة ـ تجاه لقائهم مع نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام في بروكسيل. فهل يلتقي جنبلاط مع الجماعة، أوّلاً وحصراً حتي إشعار آخر، لأنه يري فيهم مستقبل سورية السياسي، بمعني أنّ أيّ تغيير جوهري في سورية، وبالتالي أي انتخابات حرّة، سوف ترفعهم إلي سدّة السلطة، ومن الحكمة التفاعل معهم مسبقاً منذ الآن؟ أم يعتبرهم ـ كما يفعل كثير من المراقبين في الغرب، عن غباء مزمن، أو تشاطر كلاسيكي ـ اللاعب الأبرز في صفّ، أو صفوف، المعارضة السورية؟ أم يستجيب لرغبة خدّام، الشخصية الصرفة ربما، في استضافة حلفائه الإخوان المسلمين، تحريكاً للمياه الراكدة في جبهة الخلاص الخدّامية ـ الإخوانية؟ أم يمارس لعبة عضّ الأصابع مع النظام السوري، الذي بالفعل لم يكذّب خبراً وأحال جنبلاط إلي القضاء العسكري بتهمة التحريض علي سورية؟
الإجابة بـ نعم علي أيّ من الأسئلة السابقة ليست في صالح لقاء جنبلاط ـ الإخوان المسلمين، ولست واثقاً شخصياً من أنّ اللقاء يخدم المعارضة السورية في تحرّكها العامّ، سواء جري تحت مظلة إعلان دمشق ، أو تحت أيّ من الدكاكين الخارجية التي أخذت تتكاثر وتتنافس وتتدافع حتي ضاقت بها التسميات علي ما رحبت! الإجابات ذاتها تستدعي المزيد من التساؤلات، كأن يتساءل المرء، ليس دون عتب شديد يصحّ أن يرقي إلي مستوي الإدانة لأنه تمّ في سياقات سياسية دقيقة ومواتية شهدتها سورية، لماذا لم يفكّر جنبلاط في لقاء رياض الترك مثلاً، رغم أنهما تواجدا بالصدفة في العاصمة الفرنسية باريس، قبل أسابيع معدودات؟ واستطراداً، لماذا يفعل جنبلاط للمعارضة السورية الإسلامية، ما لم يفعله البتة لأيّ من أطراف المعارضة السورية العلمانية الديمقراطية، يسارية كانت أم قومية أم ليبرالية؟ وفي نهاية المطاف، أما تزال قناعته راسخة بأنّ سورية لن تشهد التغيير إلا عن طريق التدخّل الخارجي: كما في بغداد، كذلك في دمشق؟


ومع ذلك فإنّ الإنصاف يقتضي القول إنّ جنبلاط عبر نهر الروبيكون هذه المرّة، ولم تعد علاقته بالمعارضة السورية موضوعة في ميزان (كان ويظلّ غير دقيق في الواقع، أو غير متوازن الكفّتين) تثمين إنجازات حافظ الأسد في إكساب سورية موقعاً إقليمياً قوياً والحفاظ عليها من التفتت الطائفي (نعم: هذا، إلي زمن قريب، كان رأي جنبلاط... لمَن لا يعلم!) من جهة، وتأثيم أفعال بشار الأسد في تضييع كلّ تلك الإنجازات (وعلي رأسها، للمفارقة الصارخة، الخروج السوري العسكري من لبنان!) من جهة ثانية. صحيح أنه، قبل أسابيع قليلة فقط، عجز عن تذكّر اسم إعلان دمشق وأسماه بيان دمشق ، ولكنه اليوم يغلظ القول للنظام السوري ولرأس النظام شخصياً، وليست واقعة عابرة أن يلتقي شخصيات إخوانية بارزة مثل عدنان سعد الدين المراقب العام الأسبق، ومحمد فاروق طيفور نائب المراقب العام ورئيس المكتب السياسي، وعبد القادر زهران مستشار العلاقات الخارجية (لا نعرف، في المناسبة، السبب في أنّ المراقب العام علي صدر الدين البيانوني لم يكن في عداد الوفد، إلا إذا كانت حاله شبيهة بحال رياض الترك، الممنوع من دخول لبنان، رسمياً وحتي هذه الساعة!).
ليست واقعة عابرة، كذلك، أن يجري اللقاء في المختارة... دون سواها: علي مبعدة أمتار قليلة من هنا، في 16 آذار (مارس) 1977، خرّ الزعم الوطني اللبناني كمال جنبلاط صريع رصاصات لا يخفي علي أحد أنّها انطلقت بقرار من أعلي الهرم السياسي ـ الأمني في سورية. الأرجح أنّ جنبلاط الابن يعرف قتلة أبيه، اسماً اسماً وصورة صورة، كما يحفظ المرء صورة أمّه واسم ابنته، ولكنه ظلّ يعضّ علي الحصي الذي في فمه لاعتبارات سياسية وإنسانية وذاتية شخصية في وسع المرء أن يتفهمها. التباشير الأولي لانعتاق جنبلاط من حال الصمت أو المهادنة جاءت في أعقاب، وبتأثير، بيان المطارنة الموارنة أواخر أيلول (سبتمبر) 2000 حين ألقي جنبلاط خطابه الشهير في الجلسة الإفتتاحية لمجلس النواب اللبناني الجديد، فطالب بإعادة انتشار القوات العسكرية السورية المتواجدة في لبنان.


كانت هذه مسألة بالغة الحساسية، ترقي إلي مستوي المحرّم في الأساس، وتشكّل مستهلّ ومنتهي هتك المسكوت عنه ، وتقطع الحساسيات جميعها (السياسية والأمنية والعسكرية والإقتصادية والإجتماعية)، مثلما تعبر الرئاسات اللبنانية الثلاث، والطوائف والطبقات و الشرائح ، لكي نستخدم تعبير بشار الأسد تلك الأيام. هذا من حيث المبدأ، فكيف إذا جاءت المطالبة علي شكل كرة ثلج تتدحرج من الجبل (دروزه وموارنته، في عبارة لا مناص من استخدامها)؟ وكيف إذا جاءت من آل جنبلاط (الذين تقول الحكمة الشائعة إنهم أمهر من يقّسم لبنان، وأمهر من يوحّده أيضاً)؟ وكيف إذا قالها من سدّة برلمان جديد كان يعكس التوازنات الجديدة الحرجة، بين الرئيس اللبناني إميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري؟ وكيف إذا نطق بالمطالبة ابن كمال جنبلاط وخليفته في زعامة السواد الأعظم من أبناء الطائفة الدرزية، في لبنان وسورية و... إسرائيل؟ وكيف، إذا كان معظم أبناء سورية الخاضعين اليوم للإحتلال الإسرائيلي في هضاب الجولان... ينتمون إلي الطائفة الدرزية؟
هل كان في وسع جنبلاط أن ينفتح مذاك، ولا نقول: يلتقي مباشرة وعلانية، مع المعارضة السورية التي بدأت تلاقي رياح التغيير بشجاعة، فأصدرت البيانات وأطلقت المنتديات؟ كان هذا واجباً علي الرجل، حتي إذا تعذّر اليوم القول ـ علي أيّ نحو جازم ـ إنّه كان قادراً عليه، وامتنع عنه جرّاء اعتبارات سياسية وحسابات أمنية وخضوع لأحكام الميزان غير الدقيق ذاته بين حافظ الأسد وبشار الأسد. الثابت، مع ذلك، أنه في ذلك الطور طرح التواجد العسكري السوري في لبنان مقترناً، وهنا تمثّل بعض جوهر البراعة التكتيكية، بالتجاوزات الأمنية السورية وممارسة الضغوط الداخلية والتعدّي علي الحريات العامّة.


وإذا صحّ أنّ تلك الورقة كانت الأبرز التي توجّب علي جنبلاط أن يلعبها آنذاك، في تلك المرحلة القلقة من الحياة السياسية اللبنانية، فلماذا امتنع عن توسيع إطارها لكي يشمل أيّ نسق ممكن من أنساق التعاون مع المعارضة السورية، علي الخلفية ذاتها: الحقوق المدنية، والحرّيات العامة، والديمقراطية؟ والحال أنّ معني التعاون هنا لم يكن سيبدأ من ممارسة رياضات التكتيك والتكتيك المضادّ، والتحالف هنا أو شبه ونصف التحالف هناك، والإنحناء أمام العاصفة تارة أو ركوب الموجة طوراً. التعاون يومها، كما هي فلسفته وحقائقه اليوم أيضاً، كان سيرتدي طابعاً وجودياً يتجاوز صيغة حفظ البقاء البسيط ، إلي صيغة انتزاع البقاء الأفضل .


وعلي غرار ما يبدو أنه يتذكّره اليوم، لعلّ الواجب اقتضي أن يتذكّر التالي آنذاك ايضاً: اغتيال كمال جنبلاط، في عملية اُريد لها أن تكون وحشية عن سابق قصد وتصميم، لم تبدأ من دور الشهيد الراحل كزعيم درزي فحسب، بل بدأت من هدف تفكيك ما عُرف آنذاك باسم الحركة الوطنية اللبنانية . والذي أصدر أمر الإغتيال كان يعرف تماماً أنّ كمال جنبلاط أكثر من رجل إجماع وتوحيد وتنسيق، وأنّ مثاله أكثر تعقيداً من مجرّد خروج واحد من كبار بارونات الحياة السياسية اللبنانية علي أخلاقيات الصفّ التقليدي، وحرصه علي تشكيل تحالف سياسي ـ عسكري يضمّ التيارات القومية والناصرية والماركسية إلي جانب فصائل المقاومة الفلسطينية. ألم يكن انفتاح جنبلاط الابن علي المعارضة السورية منذ أواخر سنة 2000 قميناً، لو تمّ، باستئناف هذه الصيغة التحالفية التعددية الكفاحية التي دشنها جنبلاط الأب، مع فارق أنها تضمّ لبنان وسورية معاً هذه المرّة؟
وأخيراً، هل يعقل أنه آنذاك لم يدرك المعادلة التالية، التي سبقه إليها المطارنة الموارنة: هذا هو الوقت المناسب للدخول في مناوشة محسوبة مع دمشق، وتحقيق مكاسب سياسية علي هيئة ضربات خاطفة لا تكلّف الكثير؟ ذلك لأنّ سلطة بشار الأسد، القادم هاوياً فتياً إلي التوريث الرئاسي عموماً والمستنقع اللبناني خصوصاً، كانت ما تزال مرتبكة وغير مستقرّة وخاضعة لفتاوي واجتهادات الحرس القديم (خدّام، دون سواه، أوّلاً!)، والحرس الوسيط (غازي كنعان ومحمد ناصيف)، والحرس الجديد (من آصف شوكت وبهجت سليمان، هبوطاً إلي رستم غزالة). لكنّ جنبلاط لم يجذّر خطابه علي أيّ نحو، ولم يطالب تماماً بانسحاب القوات العسكرية السورية من لبنان، ولم يدعُ إلي تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 520 (كما فعل البطريرك صفير وصحبه). لقد اكتفي بإعادة انتشار القوات السورية وفقاً لاتفاق الطائف الموقّع في خريف 1989، وأن لا يكون وجودها العسكري (الذي قد تبرّره اعتبارات استراتيجية وإقليمية) مبرراً لأن تتدخّل الأجهزة الأمنية السورية في كلّ كبيرة وصغيرة علي الأرض اللبنانية.


وهكذا انحاز، في تنظيم مواقفه من النظام السوري، إلي صيغة حفظ البقاء البسيط، التي سرعان ما اتضح أنها ليست تلفيقية توفيقية فحسب، بل هي باطلة مدمّرة، خصوصاً حين بلغت أوجها الدموي في مسلسل الإغتيالات، بعد التمديد لرئاسة لحود، وصدور القرار 1995، والوضع العالق الذي لا يعاني منه جنبلاط وحده، بل قوي 14 آذار دون استثناء يذكر. كان حرّياً به أن يختار الصيغة الأخري، أي انتزاع البقاء الأفضل، الذي سرعان ما تبيّن كذلك أنها ليست الوحيدة الناجعة النافعة الفاعلة فحسب، بل هي الوحيدة الاخلاقية التي لا تُلقي بأصول وأعراف التحالف السياسي الكفاحي، في حمأة الموازين المتقلّبة.
ويبقي أنّ الأوان لم ينقضِ، بعدُ، علي تصحيح عثرات الماضي، خصوصاً وأنّ لقاء جنبلاط بإخوان سورية لم يكن كبوة، ولكنه كذلك لم يدشّن الصحوة.