السبت: 2006.05.20

محمد ولد المنى


أخيراً نجا الوزير الأول الفرنسي دومينيك دوفيلبان من مذكرة لحجب الثقة ضد حكومته، وأعلن خلال الجلسة النيابية التي خصصت لمناقشة المذكرة، يوم الثلاثاء الماضي، أنه ماضٍ في تطبيق البرنامج الحكومي الذي دخل بموجبه إلى قصر quot;ماتينيونquot; قبل عام من الآن. وفي المرافعة البليغة التي قدمها أمام ممثلي الشعب، تطرق دوفيلبان إلى إنجازات الفترة المنقضية من عمل حكومته، وإلى خططها في الرد على بعض المشكلات التي تؤرق الفرنسيين؛ كالبطالة والتضخم والإسكان وقوانين الهجرة ومكافحة الجريمة... إلا أن ذلك لم يكن المحرك المباشر وراء مذكرة حجب الثقة التي قدمتها أحزاب اليسار والوسط، على خلفية الفضيحة التي تتواصل تفاعلاتها في فرنسا منذ عدة أسابيع، وتعرف باسم quot;كليرستريمquot;، وقد ورد اسم دوفيلبان في كثير من تفاصيلها.

بدأت فصول القضية حين كشفت صحف فرنسية عن تحقيق قيل إن دوفيلبان أمر به في يناير 2004، حول قضية رشى عن مبيعات بوارج حربية إلى تايوان عام 1991، كان يتم تبييضها من خلال بنك quot;كليرستريمquot; في لوكسمبورغ. وورد اسم وزير الداخلية الحالي نيكولاس ساركوزي كأحد متلقي الرشاوى، حيث حض دوفيلبان بعض الأجهزة الأمنية على إخضاع نشاطات ساركوزي للرقابة والمتابعة، والتحقق مما إذا كان يمتلك حسابات مصرفية خارج فرنسا. لكن تبين أن الاتهامات كانت مفبركة، وأن دوفيلبان سعى من وراء التحقيق إلى تلطيخ سمعة غريمه في الحزب الحاكم (الاتحاد من أجل الحركة الشعبية)، وذلك في إطار ما اعتبره البعض تصفية لحسابات بين الرجلين على خلفية طموح كل منهما للفوز بمنصب رئيس الجمهورية خلفاً لجاك شيراك.

وبلغ التصادم بين دوفيلبان وساركوزي نقطة متقدمة، بعد أن رفع الأخير دعوى قضائية لتحديد من يقف وراء القائمة المزورة التي استند إليها التحقيق. إلا أن الرئيس شيراك جدد ثقته برئيس وزرائه، ودعا إلى أن يترك المجال للقضاة كي quot;يحددوا الحقائق كل الحقائقquot;! ويوصف دوفيلبان بأنه السياسي quot;المقربquot; بل quot;الابن الروحيquot; لجاك شيراك، وقد تعرف عليه منذ 25 عاماً وحظي بثقته ليبقى خلال سنوات عديدة أحد مسؤولي الظل؛ فكان مديراً لديوان وزير الخارجية آلان جوبيه في حكومة أدوارد بالادير بين عامي 1993 و1995، وشغل منصب الأمين العام للرئاسة أثناء ولاية شيراك الأولى (1995-2002). ثم ظهر دوفيلبان في مقدم الساحة الفرنسية والدولية في عام 2002 مع إعادة انتخاب جاك شيراك الذي عينه وزيراً للخارجية في أول حكومة شكلها رافاران، فبرز كسياسي متألق ونال شهرة دولية بإعلانه معارضة فرنسا للتدخل الأميركي في العراق، خاصة بعد خطابه الشهير أمام مجلس الأمن حيث دافع بحماس عن خيارات فرنسا وجاك شيراك المعارضة للحرب.

حدث ذلك رغم خصوصية العلاقة التي تربط دوفيلبان بالولايات المتحدة، فهو ملم بشؤونها السياسية وتياراتها الثقافية، وقد عمل خلال الفترة بين عامي 1984 و1990 السكرتير الأول ثم المستشار الثاني للسفارة الفرنسية في واشنطن، قبل أن يصبح المستشار الأول لسفارة بلاده في نيودلهي.

في عام 1968 كان دومينيك غالوز دوفيلبان، الطالب المضرب الوحيد بين طلاب مدرسته في كاراكاس بفنزويلا تضامناً مع ثورة الطلاب. وبعد أن عاش متنقلاً مع أسرته بين أميركا اللاتينية وإيطاليا والولايات المتحدة والمغرب حيث ولد في فاس عام 1953، عاد إلى فرنسا ليستقر ويكمل دراسته، إذ التحق بالمدرسة الوطنية للإدارة التي تخرج منها رموز النخبة الفرنسية، فانضم عام 1977 إلى quot;التجمع من أجل الجمهوريةquot; قبل أن يحل محله في عام 2002 quot;الاتحاد من أجل الحركة الشعبيةquot;، ثم بدأ مساره الدبلوماسي حين عين موظفاً بوزارة الخارجية في يناير 1980.

ولدوفيلبان شهرته في الأوساط العربية، فهو شاعر موهوب وصاحب قامة في الشعر، وقد صدرت له إلى الآن ست مجموعات شعرية، كما ألف كتاباً في النقد الأدبي (احتفاء بسارقي النار) وكتاب آخر حول نابليون بونابارت. إلى ذلك فهو يهتم، على غرار رئيسه شيراك، بقضايا العالم العربي وإفريقيا. وتعود اهتماماته بالقارة السمراء إلى بداية عمله بالخارجية الفرنسية سكرتيراً لشؤون إفريقيا ومدغشقر، كما أصبح في الفترة بين عامي 1992 و1993 المدير المساعد لشؤون إفريقيا ومدغشقر. وأخيراً شكلت فترة توليه وزارة الداخلية والأمن الداخلي والحريات المحلية في حكومة رافاران الثالثة (بين نهاية مارس 2004 ونهاية مايو 2005)، مناسبة له كي يرى وجهاً آخر للقارة الإفريقية وما يطرحه وجود المهاجرين من أبنائها في فرنسا من إشكالات.

جاء تولي هذا الأرستقراطي الأنيق وصاحب القامة المديدة والشعر الأبيض، لرئاسة الحكومة يوم 31 مايو 2005، وسط ظرف غير عادي بالنسبة لفرنسا؛ فبعد زلزال الاستفتاء الذي رفض فيه الفرنسيون الانضمام إلى معاهدة الدستور الأوروبي، كان على رافاران أن يقدم استقالته من رئاسة الحكومة، فقرر شيراك أن يعين خلفاً له دوفيلبان، في سابقة لم تعرفها تقاليد السياسة الفرنسية التي اعتادت ألا يأتي رئيس الحكومة من خارج البرلمان.

وخلال عام واحد في منصبه، لم تتوقف المشاكل التي واجهها دوفيلبان عند حد؛ من أحداث الضواحي في أكتوبر الماضي، مرورا بقانون الوظيفة الأولى، وصولاً إلى قضية quot;كليرستريمquot;! وكما أضعفه الصراع مع وزير داخليته (ساركوزي أيضاً هو رئيس الحزب الحاكم)، فقد نالت منه الفضيحة الأخيرة، إلى حد أفقده الثقة في تصويت النواب الـ160 الحاضرين من حزبه أثناء جلسة quot;حجب الثقةquot; ضد مذكرة الحجب!

ورغم الدعم الذي يناله من الرئيس شيراك، ورغم ما أظهره هو ذاته من رفض للضغوط الممارسة بحقه وتصميم على quot;القتال حتى النهايةquot;، فإن دوفيلبان تردت شعبيته إلى مستوى غير مسبوق، إذ لم يتجاوز تأييد الفرنسيين له نسبة 30%، حسب آخر استطلاعات الرأي، وذلك قبل بضعة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية القادمة!