السبت: 2006.06.10


حازم صاغية

يبدو كأن المواجهة المقبلة التي سيعيشها الحزب الديمقراطي الأميركي، على أبواب انتخابات 2008، ستنحصر بين هيلاري كلينتون وآل غور. صحيح أن مرشحين آخرين، ربما كان أبرزهم روس فاينغولد، quot;اليساريquot; وعضو مجلس الشيوخ عن ويسكونسن، يلوحون في الأفق، إلا أن السيّدة الأولى سابقاً ونائب الرئيس السابق هما اللذان يحتلان الصدارة الآن، وقد تنتهي بينهما محطة التصفية الأخيرة قبل مواجهة المرشح الجمهوري.
لكن القاسم المشترك بين الاثنين لا يقتصر على صلتهما بإدارة بيل كلينتون، ولا بانتسابهما إلى الحزب الديمقراطي ورغبتهما في الحلول محل جورج دبليو بوش quot;أسوأ رئيس جمهوريّة في التاريخquot;، بحسب وصف المؤرّخ quot;شين ولنتزquot;.
فهناك، أيضاً، الاستراتيجيّة التي يتبعها الاثنان، ومفادها عودة كلّ منهما إلى ماضيه/ ماضيها الشخصي والسياسي والإيديولوجي.
فما المقصود تحديداً بذلك؟
تحاول هيلاري كلينتون الآن، كسباً لأصوات المحافظين والتفافاً منها على الحملة اليمينيّة التي تعرّضت لها إبان رئاسة زوجها، أن تظهر بمظهر يميني ومحافظ، لا بل تبالغ في ذلك. والحال أن السيّدة كلينتون إنما أطلّت على الشأن العام بوصفها شابّة يمينيّة وتقليديّة: فهي نشأت أصلاً في بيت محافظ من بيوت إلينوي، ابنةً لأب يعمل في صناعة النسيج ولأم هي ربّة أسرة بالمعنى القديم للكلمة حيث من غير المألوف دخول المرأة إلى سوق العمل. وتنتسب عائلتها المؤمنة إلى الطائفة الميثوديّة غير المعروفة بميول إصلاحيّة أو تغييريّة. إلا أن هيلاري الشابّة حين تعاطت السياسة للمرّة الأولى، تعاطتها بوصفها ناشطة في حملة المرشّح الرئاسي الجمهوري باري غولدووتر عام 1964. فقد استهوى الأخيرُ ابنةَ الـ16 عاماً بالميول الصقريّة التي اشتُهر بها وذهب فيها بعيداً بما يتجاوز المزاج الأميركي العام، بحيث ألحق به المرشّح الديمقراطي ليندون جونسون هزيمة منكرة آنذاك. ولم يقتصر الأمر على هذا وحده: فهيلاري حين انتسبت إلى كليّة ولسلي في ماساشوستس، وهي موصوفة بأنها من كليّات أبناء النخبة، أصبحت رئيسة أعضاء الحزب الجمهوريّ في الكليّة المذكورة.
ولم يطرأ أي تغيّر على أفكارها إلا بعد دراستها اللاحقة في واشنطن العاصمة: هناك بدأت تبدي ميولاً ليبراليّة حملتها إلى الحزب الديمقراطيّ، فحينما أكملت طريقها التعليميّ في جامعة quot;يالquot;، حيث التقت زوجها اللاحق بيل كلينتون، كان وجهها الجديد قد تصلّب واستقرّ.
أما آل غور، في المقابل، فماضيه مختلف تماماً. فهو بدأ مهتماً بمسائل البيئة وتسرّب دفعات الكربون منذ دراسته على يد العالم الشهير روجير ريفيل في جامعة هارفارد أواخر الستينيات. وإثر خوضه معترك الحياة العامّة، ألقى إحدى مداخلاته الأولى في الموضوع إبان جلسة استماع، عام 1980، في الكونغرس. فحين حاول، بعد ثماني سنوات، الفوز بالترشيح الديمقراطي للرئاسة، أشار إلى مسألة البيئة بوصفها إحدى مشكلات الولايات المتحدة. ولم تحل خسارته تلك دون إصداره كتابه quot;الأرض في الميزانquot;، الذي كان من أول المحاولات لشرح التغيّرات المناخيّة لجمهور غير متخصّص. بيد أنه عندما خاض معركة نيابة الرئاسة على لائحة كلينتون، عام 1992، لم يأتِ على الموضوع إلا لماماً، تاركاً لخصومه الجمهوريين إثارة مسألة كانت من اختصاصه وquot;سُرقتquot; منه.
والحال أن الموضوع البيئويّ لم يكن، جملة وتفصيلاً، من القضايا المتصدّرة إبان إدارتي كلينتون- غور. فقد اقتصر الإسهام الوحيد لنائب الرئيس، خلال ثماني سنوات (1992-2000)، على الدفع باتجاه التفاوض حول اتفاقية كيوتو التي تمنّع كلينتون عن إخضاعها إلى مجلس الشيوخ للتصديق عليها. وقد يقال، في هذا الصدد، إن الأمر عائد إلى نقص الصلاحيات التي تمتع بها آل غور في ظل كلينتون، إلا أن التفسير الأكثر قابليّة للتصديق هو أنه آثر عدم تعريض مستقبله السياسي للخطر عبر صِدام مبكر مع بعض لوبيات المصالح الصناعيّة والنفطيّة. وإنما بالمعنى هذا رأيناه، عند خوضه معركة 2000 الرئاسية ضد بوش، يبالغ في التقليل من أهميّة الموضوع البيئويّ الأثير لديه.
غير أن آل غور ما أن خسر المعركة الأخيرة، بالطريقة العجيبة وذائعة الصيت التي تقرّرت في فلوريدا، حتى نبش الموضوع هذا وأعاده إلى موقع مركزي من اهتماماته. هكذا شرع يتلو المحاضرات، واحدة بعد أخرى، في أميركا كما في خارجها، حول خطر التحولات المناخيّة. وإبان مهرجان كان السينمائيّ قبل أيام، رأينا نائب الرئيس الأميركي السابق يعرض فيلماً عن البيئة حمل اسم quot;حقيقة غير ملائمةquot;.
صحيح أن آل غور، على عكس هيلاري، يعلن أنه لا يرغب في العودة إلى السياسة، بينما يقول كثيرون من نقّاده إن دوره في التحذير من المخاطر البيئية أفضل من عودته إلى البيت الأبيض وأشدّ فائدة لجهة تطوير الوعي بالمسألة هذه من دون أن تكون ثمة حسابات سياسيّة ملوّثة. بيد أن عرض الفيلم الأخير اعتُبر، في المقابل، بمثابة برنامج انتخابي مقبل. فنائب بيل كلينتون، حسب التحليل هذا، إنما وقع، من خلال البيئة، على مدخله الخاص للعودة إلى الحلبة.
وهو في هذا، ومستعيناً بماضيه، يمكن أن يراهن على العواطف المناهضة للجمهوريين، وتحديداً لثنائي بوش ونائبه ديك تشيني الأشدّ ارتباطاً باللوبي النفطي ومصالحه، والأكثر عداءً، من ثم، للاجراءات التي تؤدّي إلى تنظيف البيئة.
أما هيلاري كلينتون فلم يعد سرّاً أنها في سعيها إلى تطويق اليمين، تبدي من استعدادات الذهاب يميناً ما يتجاوز القدرة على التوقّع. فالسيّدة الأولى السابقة ستواجه، فضلاً عن الحملة السياسيّة والأخلاقيّة التي استهدفتها حصراً إبّان رئاسة زوجها، تحدياً غير مسبوق: ذاك أنها، في حال انتخابها، ستغدو المرأة الأولى التي تشغل البيت الأبيض. وهذا بذاته سيكون كفيلاً باستنفار جوقة رجعيّة وإنجيليّة أصوليّة ربما أبدت، هي الأخرى، درجة غير مسبوقة في عدوانيّتها، خصوصاً quot;أننا في زمن حربquot; وquot;الرجولة مطلوبة للحروبquot;، على ما تردّد الأوساط تلك.
وعلى النحو هذا يذهب البعض إلى تفسير ما يصعب ظاهراً تفسيره.
فالسيّدة كلينتون تلقى الدعم حاليّاً من بارون الإعلام الأسترالي روبرت مردوخ الذي سيقيم في يوليو المقبل حفلاً لجمع التبرّعات لحملتها الرئاسيّة. ومردوخ ليس فقط يمينيّاً واحتكاريّاً، بل هو مالك بعض وسائل الإعلام -كتلفزيون quot;فوكس نيوزquot; وتابلويد quot;نيويورك نيوزquot; وأسبوعيّة quot;ويكلي ستانداردquot; المحافظة الجديدةndash; التي اشتهرت بالتشهير بهيلاري.
ومواكَبةً منها لهذه التغيّرات، رأيناها في الآونة الأخيرة تتخذ مواقف غريبة عمّا هو متوقّع منها، بحيث اعتبر أحد المراقبين أن quot;الانتهازيّة التي تملكها هذه المرأة ستثبت لنا أن زوجها كان ملاكاً مُنزّهاًquot;. فهي مع الحرب في العراق، لا تتحفّظ إلا على كيفيّة أدائها، ولا تريد أن ينسحب الجيش الأميركي قبل أن يُستكمل بناء جيش عراقي. أي أنها تعتمد موقفاً شديد التشابه مع الموقف المعلن، حتى الآن، لإدارة بوش. لكنها، إلى هذا، تبنّت التصعيد ضد إيران فيما خفّفت حدّة تأييدها السابق للإجهاض. وهو جميعاً ما وضعها، ويضعها، وجهاً لوجه ليس فقط مع المناخ الليبرالي لهوليوود، بل أيضاً مع قاعدة حزبها الديمقراطيّ الذي تسيطر على قيادته البيروقراطيّة. وربما كانت إحدى مفارقات الحياة السياسيّة الأميركيّة في حال ظفر هيلاري بترشيح حزبها، في مقابل ظفر جون ماكّين بترشيح حزبه الجمهوريّ، أن نرى المرشّح الجمهوريّ يقف على يسار المرشّحة الديمقراطيّة حيال جملة القضايا، الداخليّة والخارجيّة، المطروحة.
لكنْ، في غضون ذلك، يبقى التساؤل: أيهما أوفر حظّاً في العودة إلى البيت الأبيض: هيلاري الديناميكيّة والقريبة التي تثير من المشاعر، حبّاً أو كرهاً، بعض أقواها، أم آل غور، البارد والجامد؟ وأيّهما سيكون ماضيه أكثر فائدة في ظلّ تقارب السياسات واختلاط البرامج وارتفاع درجة الكذب في الحملات الانتخابيّة؟