باللون الأصفر احتفلت مملكة تايلند أمس بالذكرى الستين لتولي بوهميبول أدولياديج (راما التاسع) عرش البلاد، وهو بذلك أطول الملوك حكما في العالم.
في ساحة سانام لوانغ، أمام القصر الكبير في وسط العاصمة بانكوك التي تتسع لنحو 700 ألف شخص، ورغم الطقس الغائم والرطوبة العالية جدا، حضر التايلنديون من كل صوب منذ ساعات الصباح الأولى.
أطفال ونساء، رجال وعجائز، كشافة وشرطة ومسعفون، شخصيات حكومية ورسمية، جميعهم ارتدى الأصفر (لون الملك)، حتى الصحافيون والسياح ارتدوا قمصانا صفراء اللون، فتحولت سانام لوانغ إلى طرحة ذهبية ترقص معها الأعلام الوطنية والملكية بينما وقف الملك بوهميبول على شرفة قصره يحيي شعبه الذي احتضنه وحضنه طوال ستين عاما شهدت خلالها المملكة ازدهارا اقتصاديا واستقرارا اجتماعيا وسياسيا.
والأصفر هو لون مواليد يوم الثلاثاء، والملك بوهميبول واحد منهم. كما أن هناك لونا لكل يوم من الأسبوع. فالوردي لمواليد الأربعاء والبرتقالي للخميس والأزرق للجمعة (منهم الملكة سيريليك زوجة الملك)، وهكذا. وفي ذكرى التتويج، كما في ذكرى ميلاده يرتدي التايلنديون قمصانا صفراء ويرفعون، إلى جانب العلم الوطني، العلم الأصفر الذي يتوسطه الشعار الملكي تعبيرا عن محبتهم وولائهم لمليكهم رمز وحدتهم وصانع مجدهم الحديث. فهو شخصية استثنائية نادرة، دخلت عميقا في قلب تايلند الحديثة. انه تقليدي، انه حديث، انه نفسه، ومع ذلك فليس عنده سلطة سياسية، لكن شعبه يحبه.
اما في الخارج، فهو مقدر جدا، والاحتفال الذي يقام في ساحة سانام لوانغ في التاسع من يونيو هو الاحتفال الرمزي ليوم التتويج. وواحد من سلسلة مهرجانات تقام في المناسبة، تبدأ بالطقوس الدينية في معبد بوذا الكبير (تبجيلا واحتراما لذكرى الملوك الأجداد والأسلاف) وصولا إلى المراسم الرسمية التي يشارك فيها هذا العام ملوك وأمراء 25 دولة بينهم سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الذي يصل بانكوك اليوم السبت، مرورا باحتفالات رمزية مثل مسيرة المراكب الشراعية في نهر تشاوا فرايا بحضور الملك بوهميبول وزوجته الملكة سيريكيت وابنائهما الأربعة.
هدوء.. ولا ازدحام
كان صباح الجمعة في بانكوك هادئا، على غير العادة، متحررا من زحمة السير الخانقة التي تقبض الأنفاس على مدار الأسبوع وطوال ساعات النهار والليل حتى يشعر كل من يتواجد في العاصمة وكأنه يدور داخل عنق زجاجة لا مخرج لها. والاختناق المروري مشكلة أساسية في بانكوك لم لم ينفع معها إنشاء القطار الهوائي SKY TRAIN ولا لجوء الكثيرين إلى 'الطق طق' (وهي سيارة صغيرة تتسع لأربعة أشخاص كحد أقصى مطورة عن الموتوسيكل مكشوفة السقف وبدون أبواب)، وهي مشكلة تتسبب بأمراض عصبية وأيضا صحية بسبب التلوث الناجم عن عوادم السيارات.
لكن في ذكرى التتويج كان هناك فقط العرس الأصفر. المدارس والجامعات أغلقت أبوابها وكذلك الشركات والمحال التجارية. مداخل بانكوك والطرقات الرئيسية المؤدية إلى سانام لوانغ التي كانت تعج حتى ساعة متأخرة من الليل أقفلت أمام المركبات. وأجواء العاصمة كانت مشبعة فقط بروائح الشواء والطهي المنبعث من الأسماك والخضار والنوديلز وغيرها من المأكولات التي وزعت مجانا إلى جانب المرطبات والمياه المعدنية على المارة والمشاركين، كمكرمة ملكية. وعلى طوال الطريق كانت تصدح الأغاني الوطنية الهادئة جدا (على غير العادة).
كيف تسلم العرش؟
ان من تسنى له المشاركة في احتفال الأمس يدرك المكانة السامية التي يحتلها رام التاسع في أعين التايلنديين وأفئدتهم على مختلف فئاتهم وطبقاتهم وانتماءاتهم الفكرية منذ اعتلائه العرش في التاسع من يونيو 1946.
لقد ساقت الأقدار بوهميبول أدولياديج إلى العرش بعد وفاة شقيقه بطلق ناري عرضي من بندقية صيد. وكان هذا الأخير، ويدعى اناند بوهميبول (راما الثامن) ورث الحكم وهو في سن العاشرة، عن عمه راما السابع الذي كان قد ضاق ذرعا من تحول الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية فآثر التنازل لابن أخيه.
وعندما تسلم راما التاسع الحكم كانت البلاد في ظل أوضاع محلية وإقليمية ودولية بالغة الاضطراب والتعقيد، ونظام ملكي ضعيف خاضع لسطوة الساسة والعسكر وأهوائهم.
لكن الملك استطاع أن يحول المملكة (نحو 65 مليون نسمة) إلى قوة اقتصادية عملاقة في آسيا تشكل الطبقة المتوسطة فيها أكثر من 60% من المواطنين. والى دولة قوية ومستقرة معتمدا على شخصيته الاسرة التي تجمع ما بين عبقرية العلماء ودهاء الساسة وتواضع البسطاء ورقة الفنانين.. وهو قد تجاوز ما تسمح به عادة دساتير الأنظمة الملكية الدستورية، ليكون رمزا للوحدة والترابط والسلام.
يلتقط لهم صورا بنفسه
تراه تارة وسط المزارعين في حقولهم يشجعهم ويحثهم على العمل والعطاء أو يأخذ لهم صورا فوتوغرافية بواسطة كاميرته الخاصة. وتراه حينا آخر في احد المصانع يجرب بيده آلة جديدة استوردها أو صنعها التايلنديون. وبادر بإنشاء مشروعات ملكية أساسية وحيوية كتدوير المحاصيل وتربية الأسماك والري ومزارع الألبان وإعادة التشجير وبناء الطرق وإنشاء القرى المكتفية ذاتيا. حتى داخل قصوره الأربعة الواقعة في زوايا البلاد المتباعدة بما فيها بانكوك هناك مساحة مخصصة للراغبين في تعلم الزراعة والحرف الشعبية وغيرها من المهن البسيطة. فالمواطن من ذوي الامكانات المعدمة بامكانه أن ينزل ضيفا في قصر الملك يتعلم ويأكل ويشرب مجانا حتى يكتسب حرفة يؤمن من خلالها قوت عيشه.
وانجازات رام التاسع لا تنحصر على المستوى التنموي فهو أيضا صمام الأمان السياسي والسلم الاجتماعي رغم انه من الناحية النظرية لا يملك أي سلطة سياسية. وتنحصر مسؤولياته في القيام بالمهام التشريعية والاحتفالية كرمز للأمة ومدافع عن عقيدتها، مضاف إليها ثلاث قواعد حددها الدستور وهي 'أن يحذر وان يشجع وان يقدم النصيحة للحكومة فحسب'. إلا أن بوهميبول نجح في توظيف مواهبه وخصاله وصفاته وأعماله وشعبيته في تجاوز تلك القواعد خدمة للمصلحة العامة.
منع الانجراف إلى الخراب
وقد شهدت فترة حكمه واحدا وعشرين رئيسا للوزراء وخمسة عشر انقلابا. واهم الأحداث السياسية التي عاشتها تايلند وكان لبوهميبول الفضل الأول في عدم انجراف البلاد نحو الخراب (ثورة الطلاب ضد حكومة الدكتاتور العسكري ثانوم كتيكاتشورن عام 1973)، فقد وقف الملك في صف الطلبة ومنع ثانوم من سحق المظاهرات المطالبة برحيل العسكر فأثمر موقفه أن تم نفي الدكتاتور إلى الخارج وإعادة صياغة الدستور.
وتاريخ آخر يتذكره التايلنديون وهو مايو 1992 عندما اصطدم الجيش بالأسلحة والذخائر الحية مع الشعب الأعزل المطالب بعودة الديموقراطية فتدخل بوهميبول مطالبا الأطراف بوضع حد لتلك المأساة ونجح، بفضل مكانته لدى الجميع، في إنقاذ المملكة من الانجراف الى حرب أهلية، وأسقطت الحكومة التي كان يتولاها آنذاك الجنرال سوشيندا كرابرايون وجاءت حكومة ديموقراطية كما يريد الشعب.
مكانة راما الخامس
ومن دون إغفال دور التقاليد - لا سيما البوذية منها - التي تفرض عادة احترام الشعب لمليكه، فإنه من الثابت بعد كل هذه السنوات الطويلة أن يكسب العاهل التايلندي تبجيل الشعب مما تميز به عهده الطويل (1868- 1919) من إصلاحات وإنجازات. وليس أدل على هذا من حقيقة أن الملك لم يغادر تايلند خلال السنوات الثلاثين الماضية سوى مرة واحدة عندما زار العاصمة اللاوسية فينتيان للمشاركة في حفل افتتاح جسر نهر الميكونغ الذي يربط بين البلدين، تعبيرا عن رغبته في علاقات طيبة مع هذا الجار المشاكس لتايلند.
ولدى عرض اجواء العلاقة الفريدة التي تجمعه بشعبه يتردد سؤال اليوم، وبقوة، حول مصير الملكية بل مصير تايلند كبلد وشعب ومسيرة، في حال غياب بوهميبول عن المسرح بعد تقدمه بالعمر وخضوعه لأكثر من جراحة في شرايين القلب.
ساوادي SAWASDEE (يوم سعيد).
هكذا مر يوم التاسع من يونيو في تايلند- المملكة التي يرجع تاريخها إلى أكثر من 3500 سنة وكانت حتى 11 مايو عام 1949 تعرف باسم بلاد السيام قبل أن يتغير اسمها إلى تايلند أو تاي TH I أي 'ارض الحرية' وهو تكريم جدير ببلد لم يخضع لأي استعمار في العصر الحديث.
مصور - مخترع - رسام
يعرف عن الملك انه متعدد المواهب، فهو يحمل آلة تصوير دائما، ويعلق بدقة على كل صورة خاصة اذا كانت لاحد اولاده أو احفاده، بعض الصور يمررها مكتبه الى الصحافة، كما انه رسام معترف به، حتى انه اقام مرة معرضا للوحاته في واشنطن.
يعزف على الساكسيفون، وكانت له فرقته الخاصة التي يعزف معها مرتين كل اسبوع، وعندما اصدر قبل ثلاث سنوات كتيبا عن كلبه الامين، باع نصف مليون نسخة في اقل من شهرين، واضافة الى ممارسة انواع عدة من الرياضات فهو 'مخترع' خاصة في حقل الزراعة وتربية المواشي، لذا فان التايلانديين ينتابهم الخوف في غيابه، خاصة انهم لا يثقون بابنه الوحيد وولي عهده، الذي يعتبرونه الشاة السوداء في القطيع.
السيارات السريعة والجاز
سجل الملك بوهميبول الرقم القياسي في الحكم المستمر فيه منذ ستين عاما، اي اطول من ملكة بريطانيا اليزابيث بست سنوات، وهو مغرم بموسيقى الجاز والسيارات السريعة.
بلد الابتسام
من الطرائف وربما المفارقات التي تروى عن الملك الذي ولد في ماساشوستيس الاميركية ودرس في سويسرا، انه نادرا ما يبتسم اثناء ظهوره على الناس في 'بلد الابتسام'، كما تسمى تايلند.. لكن شعبه يبرر هذه الصفة ايجابيا، فهو ليس 'عجوزا نكديا، بل هو يضحك من الداخل كبوذا'.
أطول الألقاب
لقبه ربما من اطول الالقاب التي يحملها حاكم أو انسان:
الملك العظيم، المحامي الكبير، قوة البلاد، من ليس له مثيل، ملجأ الشعب، ومع ذلك، فان الناس لا يكنون له الاعجاب فقط بل الحب ايضا
التعليقات