الجمعة: 2006.06.16

ليونيد ألكسندروفتش - جامعة سيبيريا

أعلن الرئيس الروسي بوتين في خطابه السنوي الأخير للبرلمان الروسي وللأمة الروسية عن رفضه القاطع للضغوط والمساومات التي تمارس من قبل واشنطن على روسيا مقابل دخولها في منظمة التجارة العالمية، ولم يتبق في مباحثات روسيا للانضمام لعضوية المنظمة سوي مباحثاتها مع دولتين فقط هما الولايات المتحدة واستراليا،

ويمكن اعتبارهما دولة واحدة باعتبار أن موافقة استراليا ستكون تحصيل حاصل بعد موافقة واشنطن، ولكن واشنطن تماطل وتراوغ كثيرا،وتربط مباحثاتها مع موسكو بأمور سياسية بحتة لا علاقة لها باتفاقيات التجارة الحرة،مثل قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطية وغيرها من الشعارات المستهلكة على الساحة الدولية الآن،وهو الأمر الذي ترفضه روسيا.

وكانت مباحثات روسيا للانضمام للمنظمة قد بدأت في عام 1995،وحصلت خلالها روسيا على موافقات من خمسين دولة من بينها الاتحاد الأوروبي الذي يعامل في مباحثات المنظمة كدولة واحدة، وكان من المتوقع أن يتم قبول روسيا في عضوية المنظمة في أواخر عام 2005 بعد جولة المباحثات التي بدأتها مع الولايات المتحدة الأميركية في فبراير من العام الماضي،ولكن واشنطن عادت تضع الشروط والعقبات،

مما أدى إلى تأجيل قبول عضوية روسيا إلى أجل آخر غير محدد، وكان الرئيس الأميركي بوش قد صرح في لقائه مع بوتين في براتيسلافا في تشيكيا في فبراير 2005 أن واشنطن حريصة على انضمام روسيا للمنظمة في هذا العام مشيرا إلى أن انضمامها سيحسن كثيرا مناخ التعاون الاقتصادي والاستثمار بينها وبين أميركا،

ومندوب واشنطن في المباحثات مع روسيا روب بورتمان صرح بأن قرار قبول عضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية سيحسم نهائيا قبل نهاية عام 2005، وفوجئت روسيا مؤخرا بأن واشنطن تضع أمامها قائمة شروط يجب عليها تنفيذها حتى يتم قبول عضويتها في المنظمة.

المباحثات بين البلدين أشبه بسباق حواجز كلما اجتازت روسيا إحداها اصطدمت بالآخر الأكثر تعقيدا وصعوبة، الأمر الذي يجعلنا نتصور أن المشكلة هي سياسية أكثر منها اقتصادية وتجارية، من ضمن الشروط التي تواجهها روسيا، والتي لا يتصور قبولها بها مسألة رفع الدعم الحكومي عن المزارعين الروس، وإلغاء الرسوم التي تفرض على الطائرات الأجنبية التي تحلق عبر سيبريا وشمال روسيا والتي تصل سنويا إلى أكثر من نصف مليار دولار،

وقضية السماح للبنوك الأجنبية بفتح فروع رئيسية لها في المدن الروسية، كذلك مشكلة إلغاء الرسوم الجمركية على السلع والمنتجات المستوردة من الخارج والتي لها بديل ينتج في روسيا مثل صناعات الطائرات والسيارات والمواد الغذائية والأدوية والكيماويات والالكترونيات وغيرها،

أيضا مسائل تتعلق بحقوق الملكية الفكرية وقطاع الخدمات والتأمين وغيرها، وكلها شروط ترى روسيا أنها مجحفة وتعسفية، موسكو تقول أن الدول الكبرى لم تلتزم بالكثير من هذه الشروط وتحايلت عليها وتريد من روسيا الالتزام بها،كما تريد واشنطن من موسكو إلغاء الرقابة البيطرية على السلع الغذائية المستوردة من أميركا.

الرئيس الروسي بوتين صرح للصحافيين بأن روسيا حريصة كل الحرص على الانضمام لمنظمة التجارة العالمية لكنها لا تقبل إطلاقا الخضوع لأية شروط تعسفية تخدم أغراضا وأهدافا سياسية لبعض الدول، وقال بوتين أن روسيا مستعدة للاستمرار في المباحثات سنوات طويلة لكنها غير مستعدة لتقديم تنازلات تضر بمصالحها السياسية والاقتصادية،

وأن روسيا تريد أن تنضم للمنظمة العالمية كشريك قوي ومضمون ومحل ثقة من الدول الأخرى، الروس سعداء بسياسة رئيسهم بوتين وسعداء لأن روسيا لم تُقبل في عضوية المنظمة في عهد الرئيس السابق يلتسين الذي كان على استعداد لتقديم كافة التنازلات المطلوبة والتي كانت ستؤدي إلى عودة الاقتصاد الروسي خمسين عاما للوراء.

إن الواقع يكشف أن واشنطن هي صاحبة القرار النهائي في قبول أو رفض عضوية أي دولة في منظمة التجارة العالمية، وهي تقيس هذا الأمر وفق مصالحها الخاصة بغض النظر عن مصالح الآخرين، وهذا هو العائق الرئيسي أمام روسيا، هذا على الرغم من أن انضمام روسيا للمنظمة سيساعد في رأي الكثيرين على اعتدال ميزان القوى داخل هذه المنظمة وسيؤدى إلى تعدد الأقطاب داخلها،

وخاصة عندما تتفق سياسات روسيا والهند والصين داخل المنظمة باعتبارهما وحدهما لديهما ما يقرب من ثلث سكان الأرض وطاقة إنتاجية أصبحت تهدد معظم الدول الغربية مع الأسواق الضخمة داخل البلدان الثلاثة. أكبر عقبة اجتازتها روسيا في مشوارها الطويل للانضمام للمنظمة على مدى نحو عشر سنوات مضت هي حصولها على موافقة الاتحاد الأوروبي وتوقيع البروتوكول معه في مايو عام 2004 بعد جولات عديدة من المباحثات المعقدة والصعوبات الشديدة،

ولكن روسيا استطاعت في مباحثاتها مع الاتحاد الأوروبي أن تحقق نجاحات مذهلة أقلقت جهات أخرى، وعلى رأسها واشنطن، فقد كان الاتحاد الأوروبي يضع عقبة كبيرة أمام روسيا تتمثل في مطالبتها بإنهاء احتكارها لقطاع الغاز الطبيعي وسيطرة الدولة عليه داخل روسيا،

وكذلك احتكارها لخطوط أنابيب نقل الغاز خارج روسيا، كما طالبتها بتحرير سعر الغاز الطبيعي داخليا في السوق الروسية ليتساوى مع السعر العالمي، وبأن تبيع الغاز لكافة الدول بسعر واحد وفق السعر العالمي دون تمييز بين دولة وأخرى، ولكن روسيا رفضت كل هذه الشروط معتبرة الغاز الطبيعي سلعة إستراتيجية يجب أن تعامل معاملة النفط الذي لا تسري عليه أحكام اتفاقيات التجارة الحرة، وقال الرئيس بوتين آنذاك laquo;أن الاتحاد الأوروبي يحاول لي ذراع روسيا،

وأن الدولة لا يمكن أن تتنازل عن هيمنتها على قطاع الغاز الذي لا يقل أهمية عندها عن قطاع النفطraquo; ووصف الرئيس بوتين المسؤولين في الاتحاد الأوروبي بأنهم بيروقراطيون يريدون عرقلة تقدم روسيا نحو اقتصاد السوق، وتدخل خبراء الطاقة الأوربيون في هذه الأزمة، وأقنعوا رجال السياسة باستحالة قبول روسيا لهذه الشروط خاصة وأنها وحدها تملك أكثر من ربع الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي،

وحذر الخبراء الأوروبيون من أن التعنت مع روسيا حول مسألة الغاز قد يؤدي في النهاية إلى حرمان أوروبا نفسها من الغاز الروسي،الأمر الذي سيؤدي إلى كارثة اقتصادية لأوروبا التي تستورد أكثر من ثلث احتياجاتها من الغاز من روسيا،وخضع الأوربيون وتخلوا عن شروطهم في قطاع الغاز،وانتصرت روسيا في جولتها وحصلت على موافقة الاتحاد الأوروبي على الانضمام لعضوية منظمة التجارة العالمية لتصطدم مع مطلع عام 2006 بالعقبة الكبرى وهي واشنطن.

الكثير من الدول النامية أنفقت مبالغ طائلة على المباحثات من أجل الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وقدمت الكثير من التنازلات، بما فيها التنازلات التي تضر بشكل مباشر بمصالحها الاقتصادية والتجارية،وكل ذلك على أمل أن تجن من وراء ذلك ما وعدتها به الدول الغنية والكبيرة،لكنها لم تجني شيئا حتى الآن،

وروسيا لا تقبل أن تكون مثل هذه الدول، وذلك لأنها تملك فائضا كبير في مصادر الطاقة من النفط والغاز،وتملك ثاني أكبر مجمع صناعي حربي في العالم وترفض أن تعامل مثل باقي الدول النامية،وترفض تقديم التنازلات،وروسيا مستعدة لخوض المعركة حتى النهاية للحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية بدون المساس بمصالحها ومصالح شعبها وأمنها القومي.