د. حسن مدن
قد لا تكون الخريطة السياسية للعالم العربي في العقود المقبلة هي نفسها الخريطة السياسية التي نعرفها اليوم، وقد يصبح عدد الدول العربية أكثر أو أقل تبعا لمقتضيات هذه الخريطة التي يجري الحديث عن صوغها في دوائر القرار الاستراتيجي في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، وليس هذا بحديث جديد، فقد سبق أن أثير في مرات سابقة، خاصة عند المنعطفات السياسية التي عرفتها المنطقة. الدارسون لاتجاهات الاستراتيجية الأمريكية يقولون إن مثل هذا التصور حول تعديل الخريطة السياسية في المنطقة جرى تداوله أول مرة في سبعينات القرن الماضي، لكن التوازن الدولي القائم في حينه بسبب وجود الاتحاد السوفييتي، الذي كان له نفوذ يعتد به في بعض دول المنطقة، أبقى الأمر في إطار التداول فحسب، وجرى حديث مشابه أيضاً في التسعينات الماضية إبان تقدم القوات العراقية إلى الكويت، لكن الملف سرعان ما طوي مؤقتاً، حين جاءت نتائج الحرب التي خاضها التحالف الذي حشدته الولايات المتحدة ضد العراق كي تكرس الخريطة القائمة وتضمن حدودها، لكن الأنظار لم تصرف نهائياً عن هذا الملف، خاصة أن الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الأقوى في المنطقة اليوم محكومة بخريطة موروثة لم تكن هي من صنعها، أو حتى شارك في صنعها، فهذه الخريطة وضعتها أوروبا الاستعمارية، وبالذات فرنسا وبريطانيا بموجب اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة التي قسمت المنطقة بين البلدين تكريساً لنتائج الحرب العالمية الأولى، ما يعني أن واشنطن مقيدة بقواعد وتقسيمات وضعها سواها، وهي ليست مضطرة للتقيد بهذه التقسيمات طالما أصبحت يداها طليقتين في المنطقة، ولعل هذا ما يفسر الطريقة المملوءة بالغطرسة التي تعامل بها الولايات المتحدة الأنظمة العربية القائمة، بما فيها الأنظمة التي تصنف تقليدياً بأنها صديقة لها أو حتى حليفة أيضاً، ويفسر أيضا الصوت العالي الذي باتت صحف أمريكية مرموقة قريبة من جهات صنع القرار تطرح به التقارير الانتقادية عن الأوضاع الداخلية في البلدان العربية، بصرف النظر عن قوة العلاقة التي تشد أنظمة هذه البلدان للولايات المتحدة. ويقال إن الخريطة التي يجري التفكير في تشكيلها لن تقيم كبير وزن لهذه العلاقة، لأن بعض الأمور ستتطلب ما يشبه العملية الجراحية التي تقتضي البتر في بعض الحالات!
هذا الكلام ليس تهويمات، كما أنه لا يعني من الجهة الأخرى أن الأمور ستتم غدا عند الساعة السادسة صباحاً، لكن تجدر ملاحظة ما يحيط بالوضع العراقي من تعقيدات كأحد الأمثلة على أن كل السيناريوهات باتت مفتوحة، خاصة مع شعور أكراد العراق بأن الظروف باتت ملائمة لهم أكثر من أي وقت مضى للدفع باتجاه الاستقلال، وهو خيار هيأوا أنفسهم له منذ سنوات الحصار الذي فرض على العراق قبل سقوط نظام صدام حسين، والحماية الدولية التي أمنت لإقليم كردستان، ووفرت له فرصة غير مسبوقة للاستقرار وتشييد مرافق الإدارة المحلية التي يمكن أن تتحول، في أية لحظة مؤاتية، إلى دولة، فيما لو جرى التوافق دولياً على الأمر. ووفق هذا الفهم علينا قراءة إصرار مسعود البرزاني على رفض رفع العلم العراقي والتمسك بعلم كردستان. وعلينا، كذلك، ملاحظة حديث الزعامات الشيعية العراقية عن الفيدرالية، التي ستعني قيام إدارة محلية مستقلة في الجنوب، ما يفتح الباب أمام كل الاحتمالات.
ليست الحالة العراقية سوى نموذج لحالات أخرى مشابهة قيد النشوء أو يمكن أن تنشأ مستقبلاً. إن وضعا إقليمياً جديداً يتشكل، وهو وضع يغري برسم خريطة سياسية جديدة.
التعليقات