رضوان السيد


بين عامي 1973 و1974 ألقى المسؤولون المصريون والسوريون على مختلف مستوياتهم، مئات الخطابات والكلمات حول الانتصار في حرب أكتوبر أو حرب رمضان. وفي الوقت نفسِه كانت الأرضان المصرية والسورية ما تزالان محتلتين، وكان الطرفان يُجريان مفاوضات واتفاقيات للفصل بين القوات: القوات الباقية على الأرض السورية حتى اليوم، وعلى الأرض المصرية حتى مطلع الثمانينيات. كذلك الأمر مع السيد حسن نصر الله وquot;حزب اللهquot; تلفزيوناً ونواباً ومسؤولين علنيين وسريين. ففي خطاب نصر الله عصر الجمعة نفس اللهجة الانتصارية، ونفس الدعاوى العريضة، بأنه quot;أَرعبquot; الإسرائيليين وquot;العربquot; المتآمرين(!) أو اعتقد ذلك عندما ذكر أنّ صواريخَهُ تزيد على العشرين ألف صاروخ. بيد أنّ هذا النضال الأسطوريّ المستمرّ منذ عام 2000 من أجل تحرير مزارع شبعا العظيمة، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين (الثلاثة أو الاثنين أو الواحد!)، ما انتهى، رغم الانتصار التاريخي، بإخراج الإسرائيليين من المزارع، ولا بإطلاق سراح الأسرى. إنما الذي حصل أنّ الإسرائيليين احتلوا أراضي لبنانيةً جديدة، وزاد عددُ أسرانا لديهم، وحاصروا البلادَ والعباد زُهاء الستين يوماً، وترك quot;حزب اللهquot; للسنيورة مهامَّ الإغاثة، واستجداء الدبلوماسية الدولية لفكّ الحصار، ومناشدة العرب والأوروبيين المساعدة في إعادة الإعمار. يتحدث السيد نصرالله عن الانتصار بأي معنىً إذن؟ بمعنى أنه صمد أمام الجيش الإسرائيلي الذي quot;لا يُقهرquot;، وكسر إرادته، وأنزل به وبالمدنيين الإسرائيليين خسائر مؤثّرة.

quot;حزب اللهquot; ليس دولةً بالمعنى المتعارَف عليه، وبهذا فإنّ صمودَهُ مشهودٌ وصحيح. وكذلك قدرته على إلحاق الخَسَائر بالعدوّ. لكنْ ماذا بعد؟ فمزارع شبعا لم تحرر، والأسرى ما يزالون موجودين بيد إسرائيل. السيد نصرالله يذكر في خطابه الأسرى ومزارع شبعا؛ لكنْ بشكلٍ عَرَضي. وهو يعلمُ أنّ مقاتلة إسرائيل من أجل المزارع ما عادت ممكنة. فبينه وبين المزارع الحدودية الآن حوالي الثلاثين ألف جندي لبناني ودَولي، وهو محتاجٌ لكي يصل للمزارع إلى الاشتباك معهم قبل الاشتباك مع إسرائيل. لكنّ نصرالله لا يعتبر انتصاره انتصاراً لبنانياً فقط؛ بل هو انتصارٌ عربيٌّ وإسلامي. فهل يعني أنه سيساعدُ بقوته الصاروخية مثلاً في تحرير فلسطين أو الجولان؟ إن كان الأمر كذلك فقد كان ينبغي أن يخبر العرب المنتظرين، والجمهور المتجمع بالضاحية الجنوبية بالأهداف الجديدة للمقاومة. لكنه بقي في العموميات، رغم كثرة تصريحاته وأحاديثه في الآونة الأخيرة.

في خطابه يوم الجمعة قال السيد حسن نصر الله، وسط الخطابية الفائقة، أمرين اثنين: إنّ المقاومة مستمرةٌ بسلاحها، وإنَّ أحداً لا يستطيعُ نَزْعَهُ منها. وإنّ عنده مطالب من النظام اللبناني (الذي ازدادت لهجتُهُ تُجاهه تشنجاً وعدائية). المطالب من النظام: حكومة الوحدة الوطنية، وقانون الانتخابات، والانتخابات الجديدة. ولنبدأ بالمطلب الثاني. بالنسبة للسيد نصرالله، النظام السياسي اللبناني نظامٌ مرذول، وهو لا يأتمنُهُ ولا يأتمنُ جيشَه على السلاح والمقاومة؛ لكنه رغم ذلك يتوجه إليه بمطالب سياسية كبيرة وكثيرة.

وفي المبدأ من حقّ أيِّ لبنانيٍ أن يطلب من النظام ما يشاء. لكنْ لذلك آليات، وما أمكن لأحدٍ الخروجُ عليها رغم الحروب الأهلية الكثيرة. نحن المسلمين اللبنانيين عددُنا أكثر من عدد المسيحيين منذ عام 1950، ومع ذلك ما كان نصيبُنا في الصيغة اللبنانية حتى عام 1990 أكثر من 45%. وقد احتاج الأمر إلى ثلاثة نزاعات أهلية مسلَّحة وغير مسلَّحة، وما أمكن في النهاية الوصول إلى نسبة 50% للمسلمين في النظام إلاّ بالتفاوض في الطائف عام 1989، وبدون سلاحٍ ولا تهديدات. وفي إحدى المرات (عام 1957) سقط، بسبب ترتيباتٍ قام بها الرئيس كميل شمعون في الدوائر الانتخابية، كلُّ زعماء المسلمين والمسيحيين المعارضين له في الانتخابات. وما أمكن إعادةُ الانتخاب حتى بعد ذهاب كميل شمعون، وأكمل المجلس النيابي مدتَه حتى انتخابات عام 1962. فالسيد نصرالله لا يستطيعُ فرضَ انتخاباتٍ جديدةٍ والانتخاباتُ الأخيرةُ لم يمرَّ عليها أكثر من عامٍ ونصف. أمّا قانونُ الانتخابات الساري المفعول، والذي يُعرف بقانون الألفين، والذي لا يحبه المسيحيون اللبنانيون بالذات؛ فإنَّ الرئيس السنيورة شكّل لجنةً وطنيةً اقترحت مشروعاً جديداً جَلَبَ حلولاً وَسَط، ويمكن أن يُطرحَ الآن للنقاش، ويذهب إلى مجلسي الوزراء والنواب، ويصبح قانوناً بعد التعديلات والتوافُقات. ولكنّ الانتخابات بحسب القانون الجديد لن تجري قبل عام 2009.

لقد حاولت الأكثريةُ النيابيةُ والوزاريةُ إزالة الرئيس لحود أو تقصير مدَّة رئاسته الممدَّدة فما أمكن ذلك، رغم الشكوك الكبيرة في موقفه من مقتل الرئيس الحريري. والذي حمى لحود بالإضافة إلى الشكليات الدستورية، quot;حزب اللهquot; وquot;حركة أملquot; وبقايا أنصار سوريا في البلاد. فكيف يريد السيد نصرالله إسقاط المجلس والحكومة وإجراء انتخابات في مهرجانٍ بالضاحية الجنوبية؟! وتبقى مسألةُ حكومة الوحدة الوطنية. بالمطالبة بالانتخابات الجديدة يريد نصرالله مكافأة حلفائه المسيحيين والمسلمين من أنصار سوريا، والذين سقطوا في الانتخابات السابقة.

ولكنْ تبقى المسألةُ الأهمّ .إذ كلُّ مطالب السيد نصرالله المتعلقة بالوضع الحكومي والوضع النيابي، تبقى رغم تطرفها الظاهر تحت سقف النظام. المسألةُ الأهمُّ التي يريدُنا نصرالله أن نبتلعَها أو نزْدرِدَها حتى لو خنفتْنا، هي مسألةُ بقاء المقاومة على سلاحِها، أي بقاء quot;حزب اللهquot; مسلَّحاً رغم أنه ما عادت له وظائف تحريرية، فهو لم يَعُدْ على الحدود مع إسرائيل. وتعهد السيد نصرالله ويتعهد بأن لا يستخدمَ سلاحَهُ بالداخل. وهذه أُحجية. لا يستطيع الذهاب إلى الحدود بسلاحه، ولا يريد استخدام سلاحه بالداخل، لكنه يريد رغم ذلك الاحتفاظَ به.

وأنا مستعدٌّ لتصديقه في أنه لا يريد الحرب الداخلية. ولهذا لا يبقى غير احتمالٍ واحد هو سببُ الإصرار على هذه الثُنائية بين الدولة والمقاومة. فسلاحُ quot;حزب اللهquot; ليس مِلْكه، بل هو مستورَدٌ من إيران، وعاملٌ في خدمتها. وكما طلبتْ منه إيران الاشتباك مع إسرائيل في 12 يوليو الماضي، تطلُبُ منه اليوم الإبقاءَ على سلاحه، رجاءَ الإخافة ولو بالفوضى الداخلية. ويقول السيد نصر الله إنّ الحزبَ هو الذي منع الحربَ الأهلية. لكنْ لم يبقَ هناك سببٌ مُهمٌّ بعد عام 2000 للتنازُع الداخلي غير سلاحه.

إنّ الذي لا يريد السيد نصرالله الاعترافَ به هو أنّ quot;الانتصارquot; الذي يتمدَّحُ به لا يمكنُ استثمارُهُ داخلياً ولو بتوسيع الحكومة الحالية لإدخال بعض الوزراء لعَون. والذي لا يريد الاعترافَ به أيضاً أنّ ثُنائية المقاومة/الدولة غير معقولةٍ ولا ممكنةٍ أيضاً. وإذا أصرَّ الحزبُ وحلفاؤه على ذلك تبعاً للمصلحتين الإيرانية والسورية، فذلك يعني المغامرة بتفجير النظام من الداخل، ولا شيء أقلّ من ذلك.

إنّ النظامَ اللبنانيّ اليومَ أمامَ امتحانٍ عسير. فالحكومةُ تُراهنُ على استعادة السلطة والسيطرة على كل الأراضي اللبنانية، لاستعادة الثقة لدى الشعب اللبناني حتى لا يُهاجر أبناؤه العاملون والأكفاء، ولاستعادة الثقة لدى العرب والأوروبيين والمجتمع الدولي، لكي يتمكن البلدُ من الوقوف على قدميه، ويظلَّ دولةً ونظاماً معتَرَفاً بهما. ونصرالله يريد الإبقاءَ على سلاحه حتى لا يبدو بمظهر الضعيف أمام جمهوره المنتشي، ولكي يظلَّ قادراً على خدمة الإيرانيين والسوريين بالطرائق التي يشاءون. ولأنَّ الحزبَ ليس مسؤولاً عن شيءٍ ولا ولاءَ عنده لشيءٍ إلاّ للولي الفقيه؛ فإنّ الحكومةَ اللبنانية والدولة اللبنانية والفئات المدنية من الشعب اللبناني هي التي تتضرر وتتكسَّرُ تدريجياً تحت وطأة الضغوط المتناقضة.

كيف يستخدم quot;حزبُ اللهquot; انتصاره إذن؟ يستخدمه لإضعاف الدولة والنظام بشكلٍ مباشرٍ، بالتهديد بجرف الحكومة والنظام. وماذا تفعلُ الحكومةُ إذن؟ إمّا أن تستسلم، كما كان الأمر أيام السوريين، فتكون نصف دولةٍ ونصف نظام، وإمّا أن تتصلَّب فيُنسَبُ إليها التسبُّبُ في اندلاع نزاعٍ داخليٍ علنيٍ لا تُعرفُ عواقبه! ولله الأمر من قبل ومن بعد .