طلال سلمان


الخطأ السياسي أفظع بنتائجه من الجريمة... وما وقع صبيحة يوم السبت الماضي في بغداد هو خطأ سياسي قاتل يكاد ان يكون في مستوى محاولة اغتيال وحدة شعب مقهور بالظلم والاحتلال معاً، ومستقبل وطن مهدد في وحدته وفي كيانه السياسي، وبالطبع في دوره العربي... بل ان هذا الخطأ السياسي قد يضفي مشروعية مفتعلة على حرب أهلية تجدد laquo;الفتنة الكبرىraquo; بين العرب خصوصاً والمسلمين عموماً، وسيكون للبنان منها كما للعديد من الاقطار العربية منها نصيب، ومرة أخرى انطلاقاً من العراق وفيه،
ولسوف يموّه laquo;البطلraquo; الحقيقي لمدبر هذه الفتنة والمستفيد الأول منها وجهه ويخفي بصماته عن القرار الخاطئ في توقيته وفي كيفية تنفيذه وفي موقعه (وجمهوره!!) تاركاً laquo;لوكيله المحليraquo; الذي عينه ثم أعاد تثبيته الرئيس الأميركي جورج بوش في موقعه كرئيس لحكومة العراق تحت الاحتلال، laquo;شرفraquo; تحمل المسؤولية عن هذا القرار الذي بلغ من توغله في الخطأ بل في الخطيئة ان حول الدكتاتور إلى شهيد.
(قال مساعد المتحدث باسم البيت الأبيض سكوت ستانزل: ان الرئيس كان نائماً عندما اعدم صدام... وهو كان أنهى يومه وهو يعرف ان المرحلة الأخيرة من الحكم على صدام حسين في طريقها إلى التنفيذ!!).
أما الرئيس الأميركي نفسه فقد قال: laquo;ان إعدام صدام يشكل مرحلة مهمة للعراق، باتجاه ديموقراطية يمكن ان تحكم نفسها بنفسها (!!) وتتمتع باكتفاء ذاتي، وتدافع عن نفسها، وتكون حليفة في الحرب على الإرهاب!..raquo;.
لكن التفاصيل المتصلة باللحظات الأخيرة لصدام حسين، بكل ما رافقها من هتافات ثأرية، ومن صور التقطت خصيصاً لاشعال نار الفتنة، ومن laquo;تفردraquo; رئيس الحكومة بالتوقيع على تنفيذ حكم الاعدام امام الكاميرات، ومن تهرب رئيس الجمهورية جلال الطالباني، وهو laquo;بطل حربraquo;، بل حروب، من التوقيع على الحكم مدعياً انه ضد الاعدام، وكذلك تهرب سائر المسؤولين في أعلى مراتب السلطة تحت الاحتلال، من المشاركة في التوقيع... كل ذلك يثبت كم ان laquo;المسرحraquo; كان معداً ـ وباتقان ملحوظ ـ لمثل هذا الخطأ السياسي المريع..
بكثير من الرعونة والخفة معاً، الخوف والرغبة في توكيد سلطة لمدعيها، معاً، نفاق نزعة الثأر عند معظم العراقيين ومداهنة السلطة الفعلية، الاحتلال الأميركي، معاً، استطاع نوري المالكي ان يسقط عن صدام حسين سجل جرائمه الحافل وان يحوله إلى شهيد، وان يلغي صورته كطاغية بث الرعب في قلوب العراقيين، قبل الرئاسة ومن ثم بعدها، لمدة خمس وثلاثين سنة أو يزيد، ليجعله ضحية اقتيد إلى الاعدام صبيحة الأضحى، ولم يتركه جلاده يكمل تلاوة الشهادتين.
صارت التفاصيل المتصلة باللحظات الأخيرة لحياته اخطر أثراً وابقى في الذهن من كل ما ارتكبه في فترة حكمه الدموي من خطايا... وها ان ضريحه في بلدته laquo;العوجةraquo; التي laquo;هربraquo; جثمانه اليها خلسة وفي الليل البهيم، مرشح لأن يتحول لمزار لضحاياه، الذين غلب عليهم الشعور بالظلم وبالمكيدة المدبرة من استذكار laquo;مآثرraquo; صدام التي لا تحصى..
حروب صدام
من أين يبدأ النقاش؟ وكيف تناقش ما بدايته خطأ وما سياقه خطأ وما نهايته خطأ.. بل خطيئة؟!
لا أحد يناقش (أو كان يناقش!) في ان صدام حسين قد حكم العراق، رسمياً، لأكثر من ربع قرن، وفعلياً لخمس وثلاثين سنة طويلة، بالحديد والنار... وانه كان laquo;عادلاًraquo; في ظلمه، بمعنى انه لم يفرق بين رفاقه البعثيين (القادة) وخصومه من laquo;القوميين العربraquo; والشيوعيين، بل بين أهله الاقربين، ابناء عمومته واصهاره وlaquo;منافسيهraquo; من التكارتة ـ في البداية ـ وبين سائر مواطنيه العراقيين. كما انه في ظلمه لم يكن laquo;طائفياًraquo; فقد شملت laquo;عدالتهraquo; الجميع عرباً وكرداً، أشوريين وكلدانا، سنة وشيعة، وصولاً إلى اليزيدين والصابئة الخ..
ولا أحد يناقش في ان صدام حسين قد ارتكب ضد شعبه خطايا مميتة... فما ان تخلص من ولي نعمته الرئيس الراحل أحمد حسن البكر (الذي قتل ابنه في حادث غامض!! فمات مقهوراً) وتفرد بالسلطة المطلقة حتى زج بالعراق في حرب طاحنة ضد ايران (1980) التي كانت الثورة الإسلامية قد نقلتها من موقعها المعادي للعرب والمسلمين إلى موقع الحليف والسند في مواجهة التطلع الأميركي للهيمنة على المنطقة بكاملها، لا فرق عندها بين عربي وأعجمي... إلا بالنفط!
وكان صدام حسين هو نفسه من وقع مع الشاه اتفاق الجزائر الشهير، بكل التنازلات الهائلة التي تضمنها... فلما جاء من خلص ايران وجيرانها، العرب أساساً، من هذا الشاه، باشر صدام laquo;قادسيتهraquo; التي دمرت العراق وايران وذهب ضحيتها أكثر من مليوني إنسان (من الشيعة والسنة بالتساوي!!) على ضفتي الحرب!
وللانصاف: لم يكن صدام حسين وحده في تلك الحرب.. بل كان معه الغرب كله بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وكان معه صندوق النفط العربي يشتري له السلاح من دول الالحاد (الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشيوعي) ويمرره عبر أراضيه، وفي ذهن عرب النفط انهم بذلك يتخلصون من الخطرين معاً: صدام بمطامحه غير المحدودة، والثورة الإسلامية بوهجها الذي كان بدأ ينتشر في المنطقة مقدماً نموذجاً جديداً لاسلام معاد للامبريالية الأميركية ولاسرائيل ومشروعها التوسعي، مقدماً لفلسطين وجهد مقاومتها من أجل التحرير الدعم المفتوح.
.. فلما انتهت الحرب بعراق مدمر (وايران مدمرة) التفت صدام حسين إلى من حرضه وموله محارباً آملاً بمساعدته في

إعادة الإعمار، فاجأه الكل بالتخلي عنه، معتبراً انه قام بواجبه وأكثر (خلال الحرب)، وانه يحتاج موارده لتعمير الصحارى وتحقيق التقدم الاجتماعي ومعالجة مشكلات الفقراء في بلاده!
... وهكذا كان قرار صدام بالحرب الثانية: اجتياح الكويت.. وتلك كانت المصيدة التي استدرج إليها فقصدها بقدميه، انتقاماً وتحقيقاً لحلم طالما دغدغ مطامح حكام بغداد، لا سيما بعد ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم.
وكان الرد عليه بحرب دولية، وفرت لها الإدارة الأميركية غطاء عربياً كافياً، بتوزيع جوائز الترضية على المشاركين العرب فيها، فكان لكل من شارك فيها ولو بجندي واحد نصيب، وكان على العراق ان يدفع ـ مرة ثانية ـ ثمناً فادحاً لحماقة سياسية لا يمكن ان يرتكبها عاقل.
وكان ان احتل laquo;التحالف الدوليraquo; بالقيادة الأميركية بعض العراق، وفرض حظر الطيران العراقي فوق الشمال كما فوق الجنوب، كما فرض عليه العقوبات الاقتصادية الهائلة، مبقياً له من نفط العراق ما يقيم بالكاد اود شعبه الذي كان قد زاد على خمسة وعشرين مليوناً..
جاءت الهزيمة للعراقيين بالجوع والذل، مع استمرار حكم الطغيان الذي زاد من بطشه... فبعد المذابح المنظمة ضد الأكراد في الشمال، وبين عناوينها مذبحة حلبجة، تجددت المذابح (وهي لم تتوقف يوماً) ضد العرب (الشيعة) في الجنوب... أما السنة فكان نصيبهم من القتل مفتوحاً.
ثم كانت البدعة الأميركية حول أسلحة الدمار الشامل التي استخدمت ذريعة لحرب احتلال العراق واسقاط صدام، الذي لم يقاوم كما كان متوقعاً منه، وتبين ان جيشه اللجب كان بلا سلاح فعال، منهكاً بالحروب السابقة، وقد نزف قياداته الشجاعة إعداماً أو نقلاً إلى السلك الخارجي أو احالة إلى المعاش، مما حرمه فرصة المقاومة كما كان يقدر العرب عموماً والعراقيون خصوصاً..
... وكان ما تعرفون من العثور عليه مختبئاً في حفرة، ومن استسلامه بلا قتال، ومن مهازل المحاكمة التي ذكرت الناس بمهزلة محكمة المهداوي الشهيرة... حتى صدور حكم الإعدام وعلى واحدة من أصغر الجرائم التي ارتكبها صدام حسين، والتي قد يبرر البعض حدوثها بأنها تمت كمذبحة صغيرة في قرية صغيرة هي الدجيل، اثر محاولة جرت فيها لاغتيال الرئيس صدام حسين..
طبعاً، لم يكن متوقعاً من الاحتلال الأميركي ان يحاكم صدام حسين على جريمته الهائلة الأولى المتمثلة بحرب السنوات الثماني ضد ايران، وهي الحرب التي ذهبت بمستقبل العراق كقوة عسكرية يحسب لها حساب، أدخلت إلى الحرب الخطأ في الزمان والمكان فانتصرت لكن وطنها قد هزم، إذ ضاعت ثروته الوطنية، وأفقر شعبه، وتحول الدكتاتور إلى بطل قومي (قادسية صدام).
كذلك لم يكن متوقعاً من الاحتلال الأميركي ان يحاكم صدام حسين على جريمته العظمى الثانية، المبنية على خطأ سياسي أيضاً، ممثلة باجتياحه الكويت..
في الأولى تفضح علاقة صدام حسين، ومن عاونه في حربه الأولى بالأميركيين،
أما الثانية فتفضح قصر النظر السياسي الذي انتهى بأن فتح أبواب العراق للاحتلال الأميركي... وهو قد تم في العام 1991 واستكمل بالاجتياح الشامل للعراق في آذار ,2003 الذي اسقط الدكتاتور، ولكن لحساب الاحتلال وليس لحساب شعبه.
عقدة الثأر
هل يكفي الغباء وقصر النظر السياسي وتحكم عقدة الثأر والخضوع لأوامر الاحتلال الأميركي في تبرير القرار الهمايوني الذي اتخذه نوري المالكي بإعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى وبينما المسلمون يؤدون فريضة الحج في مكة المكرمة، بما يحوله من دكتاتور ظالم إلى ضحية مظلوم فإلى شهيد العسف الطائفي والنزعة الانتقامية عند فريق من العراقيين بينما هو قد دمر حاضر هؤلاء العراقيين ومستقبلهم أيضاً... ومعهم مستقبل العراق جميعاً؟!
المؤكد هنا ان الخطأ السياسي بمفاعيله الخطيرة التي تضع العرب في مختلف اقطارهم على شفير الحرب الأهلية، وتعيد اشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة، هو أخطر من جريمة حولت الطاغية إلى شهيد..
ومن السهل نسبة هذه الجريمة إلى الاحتلال، وهذا صحيح، ولكن هذا laquo;المتطوعraquo; لأن يتحمل المسؤولية عنها لا يقل خطورة عن الدكتاتور الذي تحول ـ صبيحة الأضحى ـ إلى شهيد للأمة التي قاتلها أو قاتل بها حتى كاد يقتلها جميعاً.
وليست الفتنة هي الطريق الأقصر لمحاسبة الخطأ السياسي، بل ان المندفعين في اتجاهها يحولون هذا الخطأ إلى خطيئة مميتة للأمة في حاضرها ومستقبلها.